يقولون إنَّ العراق قد مات!…شهباء شهاب
كلما كتبت عن العراق، تخرج رؤوس بألسنةٍ صارخةٍ، تَاللَّهِ مازلت تَذْكُرُين العراق. العراق، الذي لازلت تذكرينه، قد خطف منّا، ولقي حتفه ومات. يصفعني الصراخ الكريه، فأتسمر لوهلةٍ مشدوهةً، حائرة، وقد فغرت فاهي عجباً ودهشةً. يقولون لي قد كان يوماً مجتمعٌ يسمى بالمجتمع العراقي، ولكنّ هذا المجتمع قد قضى نحبه منذ زمن، وقد شيعناه إلى مثواه الأخير في مقبرة ذكرياتنا الزاهية بوارف الألوان الجميلة المشرقة الباهرة.
ويتهمونني أنني لا أتكلم إلاّ عن كيان قد قبر منذ زمن بعيد، وأنني لازلت أعيش على أطلاله. فأعجب، هل يمكن لبلد عظيم الحضارة، قديمها، جذوره ممتدة، ضاربة في عمق تربة التاريخ أن يذبل ويذوي ويموت.
ولكن، لماذا يقولون أنّ العراق قد مات! متى تموت الأوطان! الوطن هو ليس مجرد مجموعة من الناس، أو تجمعاً بشرياً يعيش على بقعة أرض. إنّه أكبر من ذلك بكثير. إنّ الذي يجعل هذا التجمع البشري يتحول إلى مجتمعٍ، ووطنٍ هو ليس مجموعة الأفراد القاطنين فيه، وليس بقعة الأرض التي يقطنونها، بل هو وعي الانتماء لثقافةٍ جامعةٍ، أو وعي النوع، أو وعي التفرد.
وهذا الوعي هو المقصود عندما يشار إلى مجتمعٍ، كالمجتمع الياباني،أو الألماني، أو العراقي مثلاً. وهذا يعني أننا لا يمكن لنا أن نبصر مجتمعاً ما، ولكنّنا نستطيع أن نرى الأفراد الذين يشـكلّون هذا المجتـمع.
كم قرأنا عن مجتمعاتٍ وحضاراتٍ قديمة قد انقرضت بأكملها. يخبرنا التأريخ، وعلماء الآثار أنّ تلك المجتمعات قد تلاشت، وانهارت بفعل كوارث بيئية. ولكن توجد عوامل كثيرة أخرى تقود إلى انهيار المجتمعات وموتها، منها عوامل اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو خليط من هذا وذاك. فقد تنهار المجتمعات بسبب وجود غبنٍ اجتماعي فادح، يصاحبه غياب الولاء للمؤسسات السياسية الحاكمة، وينتج عن كل ذلك طبقة اجتماعية دنيا مقموعة، ومهمشة تنتفض لتستولي على السلطة من نخبة ثرية أصغر.
ومن الأسباب الأخرى التي تقود إلى سقوط المجتمعات وفنائها هو ما يـشير له المؤرخ الأمريـكي، جارد دايمـوند، بتصـاعد العنـف المُستـوطِن، وهو العنـف الذي يسـتوطن مجتـمعاً ما فيقـيم فيه، ويعشـش بشـكل مـتواتر ومنتـظم. فالعـنف المُسـتوطِن، والاقتتـال الداخلـي يقـودان إلى اسـتنزاف المـوارد الطبـيعية، ونضـوبها وتحـول أراضـي هذه المجتـمعات إلى أراض قاحـلة جـرداء.
كما إنّ علاقات الجيرة الطيبة بين مجتمع ما وجيرانه من مجتمعات تعمل عمل الدِعامة، أو الركيزة التي تسند المجتمع، وتمنعه من الانهيار والسقوط. وكذلك الفشل في إدارة العلاقة مع الخصوم، ومع المجتمعات العدائية، وما ينتج عن ذلك من غزو، واحتلال، وسلب، ونهب، وحرق، ودمار هو سبب آخر من أسباب تصدع المجتمعات، وانهيارها وموتها. فمثلا، أعمال السلب والنهب التي تلت الغزو المغولي للشرق الأوسط في القرن الثالث عشر الميلادي أدت إلى تدمير مدن عديدة بأكملها، و إلى ذبح آلاف البشر، وتدمير أنظمة الري القديمة لأرض ما بين النهرين تدميراً لا يمكن إصلاحه. فهذا الغزو أدى إلى تدمير المجتـمع المـدني القائم آنـذاك، وتحويله إلى مجتمع مـن الرحـل الهـائمين علـى وجوهـهم سـعياً وراء الكـلأ والمـاء.
ولقد حدث الأمر نفسه عقب الاحتلال الأمريكي للعراق، وما رافقه، وتلاه من أعمال السلب، والنهب، والحرق، وتدمير البنية التحتية، ودوائر ومؤسسات الدولة، وشبكات الماء، والكهرباء، والصرف الصحي، والهاتف، والبريد، وغيرها من البنى الأخرى، وتحويل العراق إلى مجتمع متخلف في أبسط مقومات الحياة الإنسانية. وهذا مما أجبر ملايين العراقيين على النزوح إلى أراض أخرى توفر الأمن، والخبز، ومستلزمات حياة تليق بآدمية الأنسان.
كل هذه الفواجع الدامية، والقاتلة تعرض لها المجتمع العراقي، وكلها طحنت، وأدمت، وفتكت بالإنسان فيه. وأكثر من ذلك، أنها فتكت بالوشائج، والصلات، والهوية المجتمعية، وأضعفتها، بل وربما دمرتها تدميراً شاملاً، ودمرت شعور الانتماء لها، وجعلتها تذبل، وتنحسر ولا يبقى منـها، إلا خـيوط متهـالكة، كخيـوط بيت العنـكبوت.
إنّ الدمار الذي لحق بالعراق جراء سنين طويلة من الحروب المتوالية، والعقوبات الاقتصادية، والضربات الجوية، والاحتلال، والإرهاب، والعنف الطائفي لم يقتل العراق كبنية تحتية، أو كيان مادي فحسب، وإنما شوه نفوس أبنائه من الداخل تشويها إقتلعَ به هيبتهم، قبل أن يقتلعَ بيوتهم، ودمر طريقة حياتهم قبل أن يدمر مدنهم، وفتك بالنظام الاجتماعي، قبل أن يفتك بالتاريخ والذاكرة الجماعية. وبالطبع فإنني عندما أقرر موت العراق، فإنني أقصد موت المجتمع ككيان روحي، وليس كجسد مادي، أو كتلة بشرية، أو أراض، أو آثار، أو عمق تاريخي.
العراق، كفكرة مقدسة، أو ككيان روحي يملأ نفوس أبنائه شغفاً وحنيناً وعشقاً، هو الذي مات، وماتت معه الركائز الأساسية للمجتمع المتمثلة في الهوية الوطنية، والتضامن المجتمعي، والعائلة. فالهوية العراقية ليست ورقة توضع في الجيب ; الهوية شعور بالانتماء، وآصرة توحِّد جمعاً من البشر في السراء، والضراء.
هذه الهوية قد تعرضت لهجوم شرسٍ كاسرٍ وقاتل أعياها، وأمرضها، وجعلها واهنةً، ضعيفةً، خافتة لا تكاد تقوى على النهوض، والوقوف، ورفع صوتها ومصارعة الهويات الفرعية والدخيلة، ومواجـهة الـتحديات، مما جـعلها تسـتبدل بهويات فرعية أخـرى حلت محـلها في قلـوب العـراقيين.
والتضامن المجتمعي هو الآخر انحسر، وحلت محله ثقافة الكراهية، والتخوين، والتشفي. أمّا العائلة فقد تفككت، وضربتها أمراض الفقد، والعوز، والحرمان، والتشرد، والشتات.
إنّ الذي مات هو العراق، كفكرةٍ متألقةٍ مشرقةٍ في قلوب أهله، وأصبح أهله شيعاً، وفرقاً قلوبهم وعقولهم شتى، تتنازعهم الأهواء، ويجرفهم كل مد عاتي، ألسنتهم وقلوبهم تلهج بأهواء أخرى، غير هواه. صرح هوى العراق كوطن قد تهاوى، وشيدت على أنقـاضه صـروح أهـواء أخـرى تقدس العشـائر، والطـوائف، والمذاهـب، والنِّحْل، والملـل.
كاتبة من العراق