الهجرة النبوية الشريفة: منعطف تاريخي أضاء حياة أمة
المرفأ… غدت الهجرة النبوية الشريفة التي تصادف ذكراها اليوم السبت، نقطة تحول في التاريخ والإسلام الذي أرسى قواعد في أرضية صلبة لانتقال الفكرة إلى حيّز الواقع.
فمن خلال الهجرة النبوية استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بناء أمة وحضارة وأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، والانتقال من مرحلة الضعف إلى القوّة ومن الاضطهاد إلى العزّة.
كما طوّع الرسول الكريم ومن ناصره وآمن به، عشية الهجرة إلى يثرب، المناخات السائدة في الأوساط القبلية لخطط انتقال الدعوة إلى عتبة دولة مركزية لم تعرف أرض العرب نظيرا لها طوال تاريخها.
يقول مفتي عام المملكة الشيخ عبد الكريم الخصاونة، إن الهجرة النبوية الشريفة تعد من أهم أحداث التاريخ الإسلامي، باعتبار أنه حدث تجلت فيه إرادة أمةٍ كاملة، صنعت مجدها بأيدي أبنائها، وانتهجت طريق النهضة والعمل والثقة بالله تعالى، وتخطي جميع العقبات لتصنع تاريخها ومجدها التليد، لذلك فإن الهجرة النبوية الشريفة كانت محطة فارقة في تاريخ الأمة الإسلامية.
وبين سماحته، أنه من خلال الهجرة النبوية استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بناء أمة وحضارة وأن يؤاخي بين المسلمين من المهاجرين والأنصار؛ لأن بناء الأوطان يحتاج إلى قلوب مؤمنة متحابة، تعمل في إطار من التعاون والأخوة لتعلي بنيانه وتقيم أركانه، وقد ضرب الصحابة من المهاجرين والأنصار أروع الأمثلة في الوقوف صفاً واحداً متآخين متحابين، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103).
ويضيف قائلا: قد تجلّت في الهجرة النبوية الشريف قيمة الصحبة الصالحة، والتي تجلّت في شخص سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، الذي رافق النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة، فكان خير الصاحب والمُعين، حيث كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظه ويفديه بنفسه، وهو ما يؤكد حرص النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه في اختيار الصاحب الصالح.
ويستطرد
حديثه في هذا الشأن، مبينا أن الهجرة النبوة الشريفة تعلمنا أن منهج المسلم هو التخطيط السليم، والتفكير القويم، وتنظيم الجهد، مع كمال التوكل على الله عز وجل، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد الهجرة من مكة إلى المدينة حيث أحاط الأمر بالسرية التامة، واستعان بذوي الكفاءة والمهارة والاختصاص للقيام بما يسهل هجرته، وعمل على توزيع الأدوار والمهام بين المساهمين معه لإنجاح هذا الحدث الكبير، وبعد ذلك انطلق مهاجراً متوكلاً على الله وحده، وكله ثقة بنصر الله تعالى له وللمسلمين، قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 40).
أما أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية الدكتور محمد خازر المجالي، فيشير إلى أن الهجرة أول ما تعني الحركة بدين الله تعالى، وتحمّل المسؤولية تجاه هذا الدين، والحركة بهذا الدين مهمة العظماء، وأولهم رسول الله وصحبه الكرام، مبينا أنه لولا هذه الهجرة التي مكنت للإسلام، لما انطلق المسلمون فاتحين مبشرين بهذا الدين العظيم.
ويوضح أنه لأهمية الهجرة فقد اتخذها المسلمون توقيتا لهم، وهي بهذا تذكرة للمسلمين جميعا بأهميتها، ولأن الهجرة غدت مرتبطة بالزمن ومرور الأيام، فيحسن أن نحاسب أنفسنا ونحن نستقبل عاما جديدا متفائلين متوكلين على الله حق توكله.
أستاذ الشريعة في كلية الدعوة وأصول الدين في جامعة العلوم الإسلامية العالمية الدكتور أحمد سليمان البشايرة، يرى أن الهجرة النبوية حدث لا كالأحداث؛ حيث كان بتوجيه ورعاية ربانية، كما ويحمل هذا الحدث ذكرى تتجدد في مطلع كل عام هجري، ظهرت قيمته بآثاره الحاسمة التي غيرت مسار التاريخ، فأرست قواعد رسالة السماء وجعلت الوحي الإلهي ينير السبيل ويقطع ظلمات الأهواء، وأيد الله تعالى بها نبيه صلوات الله وسلامه عليه فاظهر دينه وأعلى كلمته وأعزه، وجعل له دارا وأنصارا ينقل بها الدين من النظرية إلى التطبيق الواقعي العملي.
وقال ” لقد كانت الهجرة تحولا جذريا
حاسما في تاريخ الإسلام، بل وفي تاريخ البشرية كلها وذلك بقدر أثر الإسلام على التاريخ الإنساني، حيث كان نقطة تحول في تاريخ الإسلام من الفكرة النظرية إلى التطبيق العملي التي أثبتت جدارة الإسلام وصلاحيته وجدواه في قيادة الإنسان وتوجيه الحياة إلى الصورة المثالية الرائعة التي أضافها الإسلام إلى الحضارة الإنسانية”.
ويوضح أنه فتح الله تعالى باب الهجرة وجعله سبيل خلاص للمؤمنين من الاضطهاد والفتنة، حين لم تكن لهم قوة ينتصرون بها ممن ظلمهم، ويكفون بها أيدي العداة عنهم، ويتحصنون بها من الفتنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} (النحل:41)، وقال: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل:110).
أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية الدكتور علاء الدين محمد عدوي يقول: إن رحلة الهجرة المباركة رحلة عظيمة تجسدت فيها محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وحرصه على هدايتهم ودينهم وتحمله المشقة والمصاعب والمخاطر في سبيل دعوته إلى الله تعالى.
ويشير إلى أنها رحلة شعارها لا تحزن إن الله معنا، والتي علم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من خلالها معاني التوكل على الله واللجوء إليه، والأخذ بالأسباب، وضرورة التخطيط الصحيح لإتقان أي عمل والنجاح فيه والتضحية والبذل والعطاء، والتماس الصحبة الصالحة الصادقة في المواقف العظيمة وفي الحياة كلها، والعمل على تمكين المرأة من المشاركة والمساهمة في صناعة الأحداث العظيمة في تاريخ المسلمين وإسناد المهام إليها.