نهاية الحرب الأوكرانية ماذا تعني لدول الشرق الأوسط؟
المرفأ- الافتراض الذي وضعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الحرب في أوكرانيا تستهدف بناء نظام دولي جديد “متعدد الأقطاب” أصبح افتراضا مقبولا في الغرب من الناحية الواقعية.
ولكن أي نظام دولي جديد؟ هذا هو السؤال الكبير. وما هي انعكاساته على دول الشرق الأوسط؟
ابتداء من إدارة الرئيس دونالد ترامب، واستمرارا إلى إدارة الرئيس جو بايدن، كانت الصين تمثل، من وجهة نظر المؤسسة الأميركية (وهي مؤسسة فوق حزبية وتمثل مصالح المال والصناعات العسكرية والشركات الكبرى) التحدي الأكبر، من ثلاثة اتجاهات رئيسية: النمو الاقتصادي المتسارع، والسباق التكنولوجي، والقوة العسكرية المتعاظمة.
الرئيس ترامب الذي غرقت إدارته في أزمة كورونا خاض المعركة ضد الصين بقيود تجارية ونزعة حمائية ولغة عنصرية. وهي جوانب عاد بعضها بنتائج عكسية، لاسيما وأن الإغراءات المتعلقة بعودة المصانع إلى الولايات المتحدة، أثارت اعتراضات من ذات جنس الاعتراضات التي اعتبرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “عملا شديد العدوانية” ردا على “قانون خفض التضخم” الذي أقره الكونغرس ووقعه الرئيس بايدن.
الحرب على أوكرانيا لم تعد حربا لأغراض توسعية شنتها روسيا لتلبية طموحات محدودة، بل أصبحت حربا على كل شيء
هذا يعني أن هناك قوة عسكرية، وقوة اقتصادية، وخارطة جيوسياسية، تبرر القناعة بأن يكون هناك نظام دولي جديد يُعيد تشكيل التوازنات الدولية، ابتداء من أوروبا، وصولا إلى باقي الكرة الأرضية.
النظام الدولي الجديد على النحو الذي تتصوره روسيا، يعني إعادة بناء الإمبراطورية السوفييتية، وتكوين نظام اقتصادي دولي يوظف عائدات الطاقة الروسية والنمو الصيني لصالح بناء كتلة تجارية ومالية منافسة.
ألمانيا أكبر المتضررين
مجموعة أثقال ضخمة تقف في ميزان التحول إلى هذا النظام. الأول، مكانة دول التحالف الغربي في ميزان التجارة الدولية. والثاني، النظام المالي الدولي الذي يقوم على عملاته الرئيسية: الدولار، واليورو، والجنيه الإسترليني. والثالث، نفوذ التحالف الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، على مجموعات بكاملها من الدول، مثل دول الشرق الأوسط، ودول الاتحاد الأفريقي، ودول جنوب وشرق آسيا.
التدرب عليه، من الأسلحة الجديدة. وامتدت المساعدات لتشمل، من الناحية العملية، رعاية كل فرد في أوكرانيا، بضخ الأموال إلى النظام المصرفي، لدفع رواتب الموظفين وتوفير الخدمات الإنسانية الأساسية. فضلا عن رعاية نحو 8 ملايين مواطن (نساء وأطفال خاصة) لجأوا إلى الدول الأوروبية المجاورة.
ما يقارب 35 مليون أوكراني، من مجموع 43 مليونا، أصبحوا قادرين على البقاء في بلادهم، والتطوع في مختلف مجالات الخدمات المتعلقة بالحرب. والقوات المسلحة التي كانت لا تتجاور 125 ألف عسكري قبل الحرب تضاعفت عدة مرات بعدها. وتكفلت دول التحالف الغربي بتدريب عشرات الآلاف من العسكريين الجدد لاستخدام أسلحة لم تكن أوكرانيا تملكها من قبل.
كل هذا، لأجل القول: إن الحرب لم تعد في الواقع حربا لأغراض توسعية شنتها روسيا لتلبية طموحات محدودة، لتصبح حربا على كل شيء. أو بعبارة أخرى، حرب حياة أو موت. والمفارقة هي أن كلا الطرفين ينظر إليها الآن على أنها كذلك. “النصر سيكون لنا، وهو نصر لا مفر منه”، يقول الطرفان.
عن نفوذها العالمي، فإن ألمانيا تدافع عن نفوذها الأوروبي على الأقل. وهو ما يتطلب “نقطة تحول”، سوف تكون تاريخية بالفعل.
لقد آثرت المانيا، من بعد الحرب العالمية الثانية، أن تكون بلا قوة عسكرية تقريبا. كان ذلك محاولة للرد على ماضيها، ولأجل القول إنها تراهن على الاقتصاد لكي يصنع منها قوة عظمى. وعلى هذا الأساس فقد تخفت ألمانيا خلف “الحلف الأطلسي” لنحو 70 عاما. الظرف الأوروبي الذي أنشأه بوتين، صار يستوجب مقاربة مختلفة جذريا للأمن بالنسبة إلى ألمانيا.
المستشار أولاف شولتس، كتب يقول في مقال نشرته “فورين أفيرز” الأميركية (ديسمبر 2022) “إن تأثير الحرب الروسية يتجاوز أوكرانيا، إذ تسببت الحرب في تحطيم بنية السلام الأوروبية والدولية التي استغرق بناؤها عقودا، وهو ما يتطلب ثقافة إستراتيجية جديدة. لقد كانت القرارات المتعلقة بأمن أوروبا ومعدات القوات المسلحة تُتخذ على مدار العقود الثلاثة الماضية على خلفية أن أوروبا تنعم بالسلام، ولكن الآن ينبغي الاستعداد لهجمات محتملة على الأراضي الأوروبية والحرب الإلكترونية وحتى لهجوم نووي ولو بدا بعيدا”.
لا يوافق شولتس على فكرة العودة إلى عالم “الثنائية القطبية”، لا بمعناها الروسي – الأميركي، ولا بمعناها الصيني – الأميركي، ولكنه يريد عالما “متعدد الأقطاب” أيضا، إنما على أساس نظام القواعد الدولية الراهن ذاته، ولكنه يأخذ بعين الاعتبار مكانة ألمانيا كضامن لأمن أوروبا، ولا يعادي الصين بالضرورة، ويكسر النزعة الإمبريالية الجديدة لروسيا.
هُزمت روسيا أم انتصرت، فإن للنتيجة عواقب مباشرة على أزمات الشرق الأوسط، هي التي تفرض طرح الأسئلة الكبرى
صعود الصين “كلاعب إقليمي” لا يبرر عزلها، من وجهة نظر شولتس “ولكن قوتها المتنامية لا تبرر مساعيها للهيمنة في آسيا. وكل ما عليها وعلى الآخرين القبول به هو دعم نظام دولي قائم على القواعد، يضمن تجارة مفتوحة وعادلة”.
هذا الوقع”.
وتحت قيادة بوتين، يضيف شولتس، “تحدت روسيا المبادئ الأساسية للقانون الدولي الوارد في ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص على نبذ استخدام القوة كوسيلة للسياسة الدولية والتعهد باحترام استقلال وسيادة جميع الدول. لكن روسيا، التي تتصرف كقوة إمبريالية، تسعى لإعادة رسم الحدود بالقوة، وتقسيم العالم إلى كتل ودوائر نفوذ”.
ماذا يعني ذلك؟
الأول، إن دعوة بوتين لإقامة نظام دولي “متعدد الأقطاب”، أصبحت مقبولة. من ناحية، لأن شروطا واقعية هي التي تمليها الآن. ومن ناحية أخرى، لأن طرحها كتحد للغرب دفع الولايات المتحدة وألمانيا وباقي التحالف الغربي إلى قبوله كتحد مضاد، بكل ما يعنيه ذلك من تعديل في عقيدتها الدفاعية. وتاليا تحديد طبيعة “التعددية القطبية” المقبلة وقواعدها، وشروط المنافسة فيها.
والثاني، إن “الإمبريالية الروسية” يجب أن تُهزم، بكل ما أوتيت أوروبا والولايات المتحدة من إمكانيات. من ناحية لأنها لا تتوافق مع القواعد القائمة. ومن ناحية أخرى، لأنها لا تمتلك الإمكانيات المادية لإدارة العالم. ومن ناحية ثالثة، لأنها تقوم على رهانات اقتصادية لم تنضج بعد.
والثالث، لأن نظام العولمة القائم لم يصمد أمام التحديات الخارجية مثل جائحة كورونا، ومثل الغزو الروسي لأوكرانيا، ما يتطلب ضمانات أوسع لاحترام القواعد، وتعددية تكفل سلاسة الإمدادات وأسواقا متكافئة الفرص، مع “بناء شراكات جديدة بطريقة براغماتية، ودون حواجز أيديولوجية”.
والرابع، هو أن النظام الراهن لم ينجح في تسوية النزاعات الإقليمية، بسبب تأثيرات الطموحات الروسية التي شجعت على بقاء نيرانها تتقد، “فالاستبدادية والطموحات الإمبريالية التي عاودت الظهور، بما شمل حرب روسيا على جورجيا في 2008، والضم الروسي للقرم في 2014، وتقويض الكرملين لمعاهدات الحدّ من التسلح، وتسميم المعارضين الروس وقتلهم، وقمع المجتمع المدني، والتدخل العسكري الوحشي دعمًا لنظام بشار الأسد في سوريا”، كما يسرد شولتس من الأمثلة، يتوجب أن تُهزم. وهو ما يُلمح إلى الحاجة إلى هزيمة فشل النظام الدولي الراهن في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا، والأزمة التركية – اليونانية في شرق المتوسط، والنزاع في بحر الصين وصولا إلى الأزمة في تايوان.
هُزمت روسيا أم انتصرت، فإن للنتيجة عواقب مباشرة على أزمات الشرق الأوسط، هي التي تفرض طرح الأسئلة الكبرى: ما الذي سيحل ببشار الأسد؟ وما الذي تنتظره إيران؟ وما
هو شكل العراق بعد سقوط نظام الولي الفقيه؟ وكيف ستكتب النهاية في حرب اليمن؟ وماذا يبقى من المنطقة الرمادية التي ظل رجب طيب أردوغان يلعب فيها مع روسيا ومع الاتحاد الأوروبي؟ وكيف ستكون ليبيا ما بعد انحسار النزعة التوسعية الأردوغانية؟ عالم جديد سوف ينشأ. ولكن سوف ينشأ معه شرق أوسط جديد أيضا.