الأردن يحبو على بلاط الذكاء الاصطناعي
المرفأ…في زمنٍ تتسارع فيه خُطى العالم نحو إعادة تشكيل أدواته ومفاهيمه عبر الذكاء الاصطناعي، يبدو المشهد الأردني وكأنه ما يزال في بدايات الرحلة؛ يتحسس طريقه بحذر، ويحبو على بلاط هذا الميدان الجديد، المثقل بالفرص والمخاطر في آنٍ معًا. فبينما قطعت دول في المنطقة شوطًا كبيرًا في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يزال الأردن يُراكم اللبنات الأولى، متكئًا على موارده البشرية، ومتطلعًا إلى بناء منظومة أكثر تماسكًا وجرأة
في عام 2023، أطلقت الحكومة الأردنية “الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2023–2027″، والتي هدفت إلى تحويل المملكة إلى مركز إقليمي للذكاء الاصطناعي، عبر خمسة محاور رئيسة تشمل: تطوير المهارات، وتعزيز البحث العلمي، وبناء البيئة التشريعية، وجذب الاستثمار، وتحفيز التطبيقات في القطاعات الحيوية. وعلى الورق، تضمنت الخطة 68 مشروعًا موزعة على مدى خمس سنوات، إلا أن التحدي الأكبر لم يكن في كتابة الوثيقة، بل في تنفيذها. فحتى منتصف 2024، لم يُنجز منها سوى 15 مشروعًا فقط، بحسب تقارير حكومية، معظمها متعلق بالمسوح والاستعداد المؤسسي، لا بالبنية التحتية أو التطبيقات الميدانية الواسعة.
رغم أن الأردن يُعد من أكثر الدول العربية وفرة في الكفاءات التقنية والعقول المبدعة، فإن غياب البيئة التشريعية المحفّزة وضعف التمويل البحثي يعيقان تحوّل هذه القدرات إلى منتجات وتطبيقات واقعية. نسبة الإنفاق الوطني على البحث والتطوير لا تتجاوز 0.3% من الناتج المحلي، وهي نسبة متدنية مقارنة بمتطلبات اللحاق في سباق تقني لا يرحم. وفيما بدأت بعض الجامعات، مثل الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا، بتقديم برامج أكاديمية في الذكاء الاصطناعي، فإن الربط بين هذه البرامج وسوق العمل ما يزال هشًا، وتكاد تغيب الحاضنات الجادة التي تترجم مشاريع التخرج إلى شركات ناشئة مستدامة.
من المبادرات اللافتة، تنظيم “هاكاثون الريادة في الذكاء الاصطناعي” في جامعة الحسين التقنية، بمشاركة أكثر من 170 رياديًا شابًا، أنتجت فيه بعض الحلول لتحديات النقل والتعليم. غير أن هذه النجاحات، ورغم رمزيتها، لا تزال استثناءً لا قاعدة، وتحتاج إلى مظلة وطنية واسعة تتبنّاها، تتابعها، وتحوّلها إلى منتجات مستدامة.
في مؤشر جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي الصادر عن Oxford Insights، تقدّم الأردن من المرتبة 80 إلى 63 عالميًا بين عامي 2021 و2022. هذا التحسن يُعتبر إيجابيًا، لكنه يكشف في الوقت ذاته عن الفجوة الكبيرة التي تفصل الأردن عن الدول المتقدمة، وحتى بعض الدول الإقليمية مثل الإمارات والسعودية اللتين تجاوزتا المرتبة 30.
فيما لا تزال التجربة الأردنية تتلمس طريقها نحو بناء منظومة متماسكة في الذكاء الاصطناعي، تمكّنت دول عربية أخرى من تحقيق اختراقات لافتة في هذا المجال، مستفيدة من الإرادة السياسية والموارد المالية والرؤية الاستباقية. فالإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، لم تكتفِ بإطلاق أول وزارة للذكاء الاصطناعي في العالم عام 2017، بل تبوأت المرتبة الخامسة عالميًا في مؤشر “حيوية الذكاء الاصطناعي” الصادر عن جامعة ستانفورد عام 2024، وأسّست ثاني أكبر مجمّع حوسبة في العالم لهذا الغرض، فضلاً عن جامعة متخصصة هي الأولى من نوعها.
أما المملكة العربية السعودية، فقد خصصت استثمارات ضخمة تجاوزت 20 مليار دولار لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات الأمن، والتعليم، والطاقة، وأطلقت مركزًا وطنيًا للذكاء الاصطناعي ضمن هيئة البيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA). كما نظمت قمة دولية للذكاء الاصطناعي بمشاركة أكثر من 90 دولة، مؤكدة موقعها كفاعل دولي لا يكتفي بالتطبيق، بل يسهم في صياغة أجندة المستقبل. في هذا السياق، يبدو التفاوت بين دول المنطقة شديد الوضوح، ويطرح سؤالًا حاسمًا على الأردن: متى يتحول الحبو إلى انطلاقة؟
الأردن لا يفتقر إلى الطموح ولا إلى العقول، لكنه يفتقر إلى التمويل، والقرار السيادي القوي، والجرأة المؤسسية التي تقتحم مستقبل الذكاء الاصطناعي لا أن تراقبه من بعيد. الحبو على بلاط الذكاء الاصطناعي ليس عيبًا، لكنه يُصبح خطأ حين يستمر طويلًا دون أن يتبعه وقوف حقيقي، وخطوة جادة، نحو ميدان تتشكل فيه ملامح المستقبل منذ الآن. الصنارة نيوز