هل انهزمت إسرائيل؟ قراءة استراتيجية في مآلات الردع والاختراق الإيراني
المرفأ…منذ أن نفّذت إسرائيل ضربتها الاستباقية التي اغتالت فيها قادة بارزين في الحرس الثوري الإيراني، ساد في تل أبيب وواشنطن اعتقادٌ بأن المرحلة الأخيرة قد بدأت، وأن النظام الإيراني بات على حافة الانهيار. هذا التقدير، الذي صيغ بأدوات الماضي، وبُني على نموذج 5 يونيو 1967 حين دمرت إسرائيل سلاح الجو المصري في الساعات الأولى من الحرب، تبيّن لاحقًا أنه تقديرٌ معطل، غير قادر على قراءة التحول العميق في قواعد الاشتباك.
فالحروب لم تعد تُحسم من الجو وحده، والسيادة الجوية لم تعد مقياسًا كافيًا لفرض السيطرة. فما تعلنه إسرائيل من سيادة فوق الأجواء الإيرانية، سرعان ما قابلته سيادة صاروخية إيرانية فوق حيفا وتل أبيب وبئر السبع. لا يكمن التحول فقط في نوعية السلاح، بل في نمط استخدامه: رشقات محدودة العدد، عالية الدقة، متبوعة بطائرات مسيّرة انتحارية أو استطلاعية، لا تكلّف الكثير لكنها تستهلك الدفاعات الإسرائيلية باهظة الثمن.
منذ فجر الخميس، ظهر جليًا أن الدفاعات الإسرائيلية تخضع لاستنزاف مدروس. كل صاروخ إيراني بات يكلّف تل أبيب ما يقارب ثلاثة ملايين دولار لاعتراضه، وهو ما دفع الأصوات داخل إسرائيل للمناداة بترشيد الإطلاق، حتى لو أدى ذلك إلى سقوط بعض الصواريخ فوق الأحياء السكنية. هذا التآكل في استراتيجية الحماية الشاملة، الذي كان يفخر به الجيش الإسرائيلي لسنوات، ليس تراجعًا ميدانيًا فقط، بل كسرٌ للرمزية الردعية، وهزيمة نفسية على مستوى العمق المجتمعي.
إيران تدير المشهد بحساب دقيق. لا تستعجل الحرب الشاملة، لكنها تُتقن إطالة أمد التوتر. فكل رشقة صاروخية صغيرة تستنزف صواريخ الاعتراض، وكل موجة مسيّرات تعيد تشكيل خرائط الترقب. إنها ليست مجرد مواجهة بالنار، بل معركة منهجية لإرهاق القرار، ومراكمة الضغط النفسي على المؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل. في هذا السياق، لم يعد السؤال “من سيربح الحرب؟”، بل “من سيتحمّل كلفتها النفسية والمادية حتى النهاية؟”.
في واشنطن، يبدو الموقف أكثر توترًا، خصوصًا بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فالرئيس الأمريكي الحالي يواجه لحظة اختبار عسيرة، بين رغبته في استعادة هيبة الردع الأمريكي في المنطقة، وبين الخشية من الانزلاق إلى حرب إقليمية مفتوحة تُنهك الاقتصاد وتفكك التحالفات. ترامب، الذي هدّد إيران بـ”ضربات أعنف إن لم تعد إلى التفاوض”، يبدو مستعدًا لدعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، لكنه يتريّث في إصدار أوامر تنفيذية بضربات مباشرة، ملوّحًا بخيارات مؤجلة حسب سلوك طهران.
وبينما يؤكد مسؤولون في البنتاغون أن خطط استهداف منشآت إيرانية—ومن بينها مجمع “فوردو” النووي—قد أُقرّت تكتيكيًا، لم يُتخذ بعد القرار السياسي النهائي بتنفيذها. الكونغرس من جانبه دخل على الخط، محاولًا تقييد صلاحيات الرئيس في إعلان الحرب دون تفويض تشريعي، وسط انقسام داخلي حول دور أمريكا في هذه المواجهة. ومع هذا، فإن نشر قطع بحرية أمريكية في المتوسط والخليج، إلى جانب تعزيز الدعم اللوجستي لإسرائيل، يُظهر أن واشنطن تُعد العدة، ولو ببطء.
أما في طهران، فتبدو المعادلة مختلفة: مزيد من الاستعدادات، دون استفزاز مفتوح. تصريحات المسؤولين الإيرانيين توحي بثقة متزايدة بقدرتهم على كسر الهيمنة الجوية، مع استعراض صواريخ جديدة وتقنيات تشويش وتخفي. وفي الوقت الذي تواجه فيه إسرائيل صعوبة في تأمين العمق الجغرافي، تواصل إيران تحديث دفاعاتها الجوية، وتفعيل أنظمة مثل S-300، مما يعقّد أي هجوم جوي جديد على منشآتها النووية أو العسكرية.
بحسب تقييمات استخباراتية أمريكية حديثة، فإن إيران باتت قادرة على تهديد كل منطقة الشرق الأوسط، بما فيها القواعد الأمريكية، بصواريخ دقيقة وبالغة المدى، وهذا ما يجعل خيار الحرب أكثر تكلفة وتعقيدًا من أي وقت مضى.
في هذه اللحظة، لا يمكن القول إن إسرائيل قد انهزمت. لكنها تفقد شيئًا أغلى من الانتصار: تفقد قدرتها على إخافة الخصم، وعلى طمأنة الداخل، وعلى إدارة الحلفاء. إنها اللحظة التي يتحول فيها الردع إلى وهم، والسيادة الجوية إلى عبء، والتفوق التكنولوجي إلى سباق نزيف اقتصادي.
والأخطر من كل ذلك، أن إيران لم تطلق كل ما تملك. وهذا وحده، يكفي ليجعل السؤال عن “الهزيمة” سؤالًا مفتوحًا، بإجابات لا تُكتب في ساحة المعركة وحدها، بل في العواصم، وفي العقول، وفي قدرة كل طرف على الصمود النفسي والسياسي.
الصنارة نيوز