الصين– أميركا: مواجهة أم صفقة كبرى؟

2٬615
المرفأ…في خضمّ التركيز على الأزمات والحروب المتلاحقة في الشرق الأوسط، من قطاع غزّة إلى لبنان إلى اليمن وسوريا وإيران، يجري رسم مستقبل العالم في “الباسيفيك” (المحيط الهادىء) والمحيط الهندي بخطى متسارعة بين القطبين العالميَّين الكبيرين، الولايات المتّحدة الدولة الأقوى في المعمورة، ومنافستها الصين الساعية إلى الريادة الاقتصادية.
أستراليا، المواجهة للصين في “الباسيفيك”، تستضيف أضخم المناورات العسكرية في تاريخها، وتشارك فيها أحدث الأسلحة وأكثر سفن العالم تطوّراً، بمشاركة أميركا وبريطانيا وفرنسا واليابان وكندا و6 دول أخرى. وتعلن كانبيرا تعديل استراتيجيتها العسكرية نحو القوّة النارية البعيدة المدى المتمثّلة بصواريخ “هيمارس” الأميركية.
في المقابل رُصدت سفينة تجسّس صينية قبالة سواحل شمال شرق أستراليا. وواصلت بكين مناوراتها العسكرية في مضيق تايوان، وكرّرت نيّتها استعادة الجزيرة التي تتّهمها بـ”الانفصال” عنها عام 1949، إلى البرّ الصيني ووطنها الأمّ. وأكّدت أنّ إعادة التوحيد “لا يمكن وقفها”. وازدادت التهديدات الصينية في شأن تايوان منذ انتخاب لاي تشينغ تي، المدافع الصريح عن استقلال تايوان، رئيساً في كانون الثاني 2024. وعزّزت وجودها في بحر الصين الجنوبي، وبنت قواعد عسكرية جديدة.
بدورها ردّت تايبة بإجراء أكبر مناوراتها العسكرية على الإطلاق في حضور إعلامي أميركي. وعبّرت حليفتها الفيليبين عن خشيتها من التطوّرات المتسارعة واعتبرت أنّ أمنها القومي متشابك مع تايوان. وسارع وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث إلى لقاء الرئيس الفيليبينيّ فرديناند ماركوس الابن ليؤكّد له التزام الولايات المتّحدة اتّفاق الدفاع المشترك.
زار مسؤولون أميركيون كبار كوريا الجنوبية واليابان لمناقشة استخدام أحواض بناء السفن الضخمة لديهما لدعم الجيش الأميركي، وكيفية دعم القوّات الأميركية المتمركزة هناك لمعركة محتملة من أجل تايوان. وواصلت واشنطن دعم تايبة بالسلاح والمعدّات العسكرية المتطوّرة.
رُصدت سفينة تجسّس صينية قبالة سواحل شمال شرق أستراليا. وواصلت بكين مناوراتها العسكرية في مضيق تايوان، وكرّرت نيّتها استعادة الجزيرة التي تتّهمها بـ”الانفصال” عنها عام 1949

اشتباكات بين كمبوديا وتايلاند
وسط هذه التوتّرات اندلعت اشتباكات حدودية مسلّحة دامية بين كمبوديا وتايلاند كادت تتطوّر إلى حرب، اعتبرها مراقبون حرباً بالوكالة بين الصين وأميركا في جنوب شرق اسيا. لكنّ كلّاً من بكين وواشنطن سارعتا إلى دعوة المتقاتلين إلى ضبط النفس وعرضتا الوساطة بين الطرفين.
ترافقت التوتّرات العسكرية مع فرض واشنطن قيوداً على تصدير أشباه الموصلات والتقنيّات المتقدّمة مثل الذكاء الاصطناعي والمعالجات الدقيقة إلى الصين. وردّت بكين بمحاولات لتوطين التكنولوجيا وتطوير بدائل وطنيّة. وتبادل الطرفان اتّهامات بالتجسّس الإلكتروني وسرقة الملكيّة الفكريّة.
في حين واصلت الصين سعيها إلى زعامة عالمية موازية عبر مشروع الحزام والطريق والمؤسّسات البديلة مثل بنك التنمية الآسيوي، حاولت واشنطن تقويض هذا النفوذ من خلال تحالفات جديدة، مثل التحالف الرباعي “كواد” ومجموعة السبع وتحالف “أوكوس” والطريق الهندي الأوروبي المنافس لطريق الحرير.
بين التّوتّرات ومؤشّرات التّهدئة
مقابل التوتّرات كانت ثمّة مؤشّرات تهدئة كثيرة بين الجانبين، أبرزها:
معادوة الحوار الاستراتيجي والاقتصادي الرفيع بين بكين وواشنطن بعد انقطاع.
تبادل الزيارات على مستوى حكومي رفيع.
مناقشة تمديد هدنة التعريفات الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب.
إعلان اتّفاق تجاريّ مرحليّ جديد، بعد الاتّفاق على تسهيل صادرات المعادن النادرة والمغناطيسات إلى الولايات المتّحدة مقابل تخفيف بعض القيود الأميركية وتقليص الرسوم على الطلاب الصينيين.
التنسيق في ملفّ التغيّر المناخيّ ومنع انتشار الأسلحة النووية (لا سيما في كوريا الشمالية).
محادثات في ضبط الذكاء الاصطناعي دوليّاً.
تخفيف حدّة الخطاب الإعلامي الرسمي بين الجانبين.
ترافقت التوتّرات العسكرية مع فرض واشنطن قيوداً على تصدير أشباه الموصلات والتقنيّات المتقدّمة مثل الذكاء الاصطناعي والمعالجات الدقيقة إلى الصين

صفقة كبرى مقابل تايوان
الأهمّ هو احتمال عقد لقاء مباشر بين الرئيس الصيني شي جين بينغ ودونالد ترامب في تشرين الثاني المقبل.
 لكنّ هذا اللقاء المحتمل أثار ريبة ومخاوف لدى بعض الأوساط الفاعلة في واشنطن، ويخشى خبراء أميركيون أن يشغل ترامب، الذي لا يُعرف عنه رأي واضح في شأن تايوان، الاتّفاق التجاري الدسم مع الصين عن قضيّة تايوان، ويترك الجزيرة لقمة سائغة لبكين. ونقلت “واشنطن بوست” عن هؤلاء أنّ السعي وراء صفقة كبرى مع الخصم العملاق الآسيوي غير حكيم، وأنّ من الضروري التركيز على استراتيجية “الطمأنة والردع”، من خلال الحفاظ على الوضع الراهن، والاكتفاء بتذكير تايوان بمعارضتها للاستقلال الكامل، ومشاركة هذه الرسالة مع بكين.
بحسب مسؤول أميركي سابق، طلبت الصين من إدارة الرئيس السابق جو بايدن أن تغيّر واشنطن صيغتها الخطابية من “الولايات المتّحدة لا تدعم استقلال تايوان” إلى “الولايات المتّحدة تعارض الاستقلال”. وعلى الرغم من رفض الإدارة السابقة هذا الطلب آنذاك، يعتقد المسؤول نفسه أنّ هذه الطمأنة قد تكون منطقية الآن.
لكنّ المشكلة أنّ مساحة المواجهة لم تعد تقتصر على الصين وتايوان، ذلك أنّ دولاً عدّة مجاورة للصين وتعدّ حليفة للولايات المتّحدة ستجد نفسها متروكة وحدها في مواجهة التنّين الصيني، في حين أنّ المطلوب الآن تعزيز القوّة العسكرية الأميركية في آسيا لكبح أيّ جهد صيني للسيطرة على تايوان بالقوّة، وفق تقرير الصحيفة نفسها.
بالفعل يزداد قلق حلفاء أميركا الآسيويّين من احتمال تراجع الدعم الأميركي يوماً ما، ولا سيما مع الأنباء عن سحب خبراء ومدرّبين أميركيين من تايوان وأوكيناوا وكوريا الجنوبية بذريعة أنّ وجودهم هناك يؤجّج تصعيداً غير مقصود. لذا عبّرت دول مثل اليابان وأستراليا ومجموعة من الدول الأصغر، عن رغبتها في توطيد علاقاتها مع أوروبا، بما في ذلك من خلال مشتريات الدفاع.
يقول منتقدو هذا النهج إنّ أيّ انسحاب أميركي من أيّ منطقة قد يُنظر إليه على أنّه ضوء أخضر لبكين لغزو تايوان. في حزيران الماضي، وبينما أرسلت الولايات المتّحدة حاملات طائرات متمركزة في المحيط الهادئ وأنظمة دفاع جوّي من طراز باتريوت إلى الشرق الأوسط، أجرت حاملتا الطائرات الصينيّتان العاملتان تدريباتهما الرفيعة المستوى في عمق غرب المحيط الهادئ أكثر من أيّ وقت مضى، في مؤشّر آخر إلى تنامي الثقة الصينية.

لا تنكر الصين صعودها، لكنّها ترفض “الاحتفاء المسبق” به، وتحرص على عدم استفزاز الغرب، وخصوصاً الولايات المتّحدة
التّوحيد طوعاً لا قسراً
لكن على الرغم من التوتّرات والمناورات ورائحة الصفقات الكبرى، لا شيء يشير إلى غزو صيني وشيك أو في المدى لتايوان. تسعى الصين إلى إعادة التوحيد طوعاً وبالإغراءات الاقتصادية والمكاسب، لا قسراً ولا حرباً. وتدرك أنّ أيّ انجرار إلى معركة ستمثّل كارثة لها ولنموّها الاقتصادي وبرنامجها للقضاء على الفقر.
لا تنكر الصين صعودها، لكنّها ترفض “الاحتفاء المسبق” به، وتحرص على عدم استفزاز الغرب، وخصوصاً الولايات المتّحدة. لذا تحرص على خطاب استراتيجيّ لا يدعّي العظمة، بل يلتفّ عليها. وتنتهج حكم زعيمها الراحل ومهندس نهضتها الاقتصادية دنغ شياو بينغ: “اخفِ قوّتك، وكن غامضاً” ، و”لا يهمّ لون القطّ إن كان أبيض أم أسود، المهم أن يأكل الفئران”. بمعنى أنّ المهمّ هو الغاية وليس الوسيلة ولا التوقيت. ترفض بأن توصف بأنّها “قوّة عظمى” وتفضّل توصيفها بأنّها “دولة نامية كبرى”، وتذكّر بأنّ أكثر من 300 مليون صيني لا يزالون تحت خطّ الفقر، وأنّ متوسّط مستوى الدخل للفرد الصيني لا يزال متدنّياً مقارنة مع معظم دول العالم.
إلّا أنّ ذلك لن يخرج تايوان من الحسابات السياسية الاستراتيجية الكبرى، فلا الصين قادرة على تجاوزها لأنّها باتت حجر زاوية سياديّ بحت وشديد الارتباط بنظرة بكين لمكانتها العالمية ودورها المستقبلي، ولا الولايات المتّحدة قادرة على تجاهل مصيرها، لأنّ ذلك سيعدّ كسراً لتحالفاتها الآسيوية وصدقيّتها، ولأنّها ورقة ضغط فاعلة لا بند للمقايضة.
في أفضل الأحوال قد تكون ترجمة الصفقة إذا حصلت تخفيف الدعم العسكري والسياسي الأميركي لتايبة في مقابل تنازلات تجارية صينية مثل شراء منتجات أميركية أو تسهيلات في أسواق التكنولوجيا والمعادن النادرة.

قد يعجبك ايضا