كرة ثلج مالية تهدّد العالم… قفزة كبيرة للديون تربك الموازنات

3٬617

المرفأ…لم تعد أزمة الديون العالمية مجرد ملف على طاولة وزراء المالية، بل تحولت إلى عناوين يومية تدفع الأسواق إلى التوتر والمواطنين إلى القلق. وأصبحت مثل كرة ثلج مالية تتدحرج بسرعة غير مسبوقة، تغذيها مستويات قياسية من الدين العام والخاص، وعوائد سندات وأدوات دين حكومية ترتفع باطراد، وتكاليف خدمة دين وفوائد تلتهم حصصاً متزايدة من الموازنات العامة والإيرادات الضريبية. وبينما يظنّ البعض أن خفض أسعار الفائدة الرسمية كفيل بتهدئة المخاوف، تؤكّد الوقائع أن ما يتحرك فعلياً هو تكلفة الاقتراض السوقية التي لا تنتظر قرار البنك المركزي.

وأظهرت أحدث بيانات صادرة عن معهد التمويل الدولي أن الدين العالمي قفز إلى نحو 325 تريليون دولار في منتصف 2025، بزيادة تجاوزت 3 تريليونات دولار خلال النصف الأول من العام، مدفوعاً بارتفاع الاقتراض الحكومي في الاقتصادات الكبرى وإصدارات قياسية في الأسواق الناشئة. وقال المعهد إنّ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تقترب من أعلى مستوياتها التاريخية، ما يترك الحكومات عرضة لتكاليف فائدة متزايدة في بيئة عوائد مرتفعة.

وفي المقابل، أظهر التحديث الأخير لقاعدة بيانات الدين العالمي لصندوق النقد الدولي الصادر في سبتمبر/أيلول 2025 أن إجمالي الدين استقر عند مستوى يعادل 235% من الناتج العالمي بنهاية عام 2024، أي ما يقارب 251 تريليون دولار، مع تراجع الدين الخاص إلى أدنى مستوى منذ 2015 وارتفاع الدين العام إلى قرابة 93% من الناتج نتيجة استمرار العجز المالي وارتفاع مدفوعات الفائدة.

الديون تتفاقم وتعكس بيانات معهد التمويل الدولي الوضع اللحظي واتجاهات السوق في الوقت الفعلي، بينما توفر بيانات صندوق النقد خطَّ أساسٍ موحداً للمقارنة التاريخية بين الاقتصادات، ما يجعل الجمع بين المصدرَين ضرورياً لفهم الصورة الكاملة لحجم المخاطر المالية التي يواجهها العالم اليوم. ويرى محللون أن هذه المؤشرات، رغم اختلاف منهجية القياس بين المؤسّستَين، تؤكد أن عبء الدين ما زال عند مستويات تاريخية، وأن أي تباطؤ في النمو أو ارتفاع إضافي في العوائد قد يدفع كثيراً من الحكومات إلى مواجهة اختبارات صعبة في التمويل وإدارة الموازنات.

وتتصدر اليابان قائمة الدول الأكثر مديونية نسبة إلى حجم اقتصادها، إذ يبلغ الدين الحكومي نحو 1.324 تريليون ين (نحو 9 تريليونات دولار) أي ما يعادل 235% من الناتج المحلي الإجمالي. وتليها إيطاليا بنسبة تقارب 140% من الناتج بإجمالي يتجاوز 2.9 تريليون يورو، ثم فرنسا عند نحو 116% من الناتج بما يعادل أكثر من 3.1 تريليونات يورو، والمملكة المتحدة التي يقترب دينها من 100% من حجم الاقتصاد، أما الولايات المتحدة فتتصدّر من حيث القيمة المطلقة بدَين يتجاوز 37 تريليون دولار أي ما يقارب 121% من الناتج المحلي، فيما ارتفع الدين العام في الصين إلى نحو 88% من الناتج مع دين للقطاع الخاص يتجاوز 206% يقوده قطاع الشركات غير المالية، ما يجعل الصين ثاني أكبر مساهم في زيادة الدين العالمي بعد الولايات المتحدة.اليابان تبيع أصولاً والأسبوع الماضي، أعلن بنك اليابان، أنه سيبدأ بيع حيازاته من صناديق المؤشرات المتداولة بقيمة تقارب 330 مليار ين سنوياً (2.24 مليار دولار)، إلى جانب بيع تدريجي لصناديق الاستثمار العقاري، ما يعني أن البنك المركزي الياباني الذي اعتاد طوال العقد الماضي ضخّ سيولة نقدية هائلة في الأسواق لدعم الاقتصاد، بدأ الآن يسحب جزءاً من تلك الأموال من السوق، وأن الدعم الاصطناعي لأسعار الأسهم والسندات سيتراجع تدريجياً، ما قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وانخفاض شهية المستثمرين للمخاطرة، في خطوة اعتبرها محللون أول تحول حقيقي عن سياسة التيسير النقدي المفرط.

وأبقى البنك المركزي الياباني سعر الفائدة عند 0.5%، لكن العضوين في مجلس السياسة النقدية هاجيمي تاكاتا وناوكي تامورا طالبا برفعها إلى 0.75%، وهو ما دفع الأسواق إلى تسعير تشديد نقدي محتمل. وقفز العائد على السندات الحكومية لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 1.6%، وهو الأعلى منذ 2008، بينما أشارت وزارة المالية إلى أنّ بند خدمة الدين في موازنة 2026 سيصل إلى مستوى قياسي عند 32.4 تريليون ين (220.4 مليار دولار)، ما يعني أن الحكومة اليابانية تنفق كل عام ما يعادل موازنة دولة متوسطة الحجم فقط لسداد فوائد الدين، من دون أن تخفض أصل الدين نفسه، كما أن ارتفاع بند خدمة الدين لهذه المستويات تعني ضغوطاً أكبر على الموازنة العامة قد تترجم إلى خفض في الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية أو إلى زيادات ضريبية مستقبلية، فضلاً عن ارتفاع كلفة القروض العقارية والاستهلاكية مع استمرار صعود العوائد في السوق.

تراجع القوة الشرائية في أميركا وفي الولايات المتحدة، تجاوز الدين الفيدرالي حاجز 37 تريليون دولار للمرة الأولى في التاريخ (وهذا يعني أن كل مواطن أميركي يتحمل نظرياً أكثر من 100 ألف دولار من الدين الفيدرالي)، فيما يقترب العجز السنوي من 1.7 تريليون دولار. وبدأت وزارة الخزانة الأميركية شراء سندات من السوق لدعم السيولة مع اقتراب عوائد سندات الخزانة طويلة الأجل من 5%. وإذا استمرت العوائد على سندات الخزانة قرب 5%، فسيضطر صناع السياسة إلى إنفاق مزيد من الميزانية على الفوائد بدل تمويل برامج الرعاية الاجتماعية أو تحديث البنية التحتية.ووفق تقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس، فإن استمرار السياسات الحالية سيؤدي إلى تضاعف العجز السنوي ليتجاوز 3.5 تريليونات دولار خلال العقد المقبل، فيما قد تقفز نسبة الدين إلى نحو 250% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول منتصف القرن. ويحذر خبراء الاقتصاد من أن خدمة الدين قد تصبح البند الأكبر في الموازنة خلال سنوات قليلة إذا لم يُكبَح العجز. وبدأ تأثير ذلك يظهر على المواطنين مع وصول فوائد بطاقات الائتمان إلى أعلى مستوى منذ عقدين، وارتفاع أقساط الرهن العقاري إلى مستويات لم تسجل منذ الأزمة المالية العالمية، ما يقلّل القوة الشرائية ويجعل شراء المنازل أو السيارات أكثر صعوبة.

معضلة في بريطانيا وفي بريطانيا، أظهرت بيانات مكتب الإحصاءات أن الحكومة اقترضت في أغسطس/آب الماضي 18 مليار جنيه إسترليني، وهو أعلى مستوى منذ خمس سنوات، ليرتفع الاقتراض منذ بداية العام المالي إلى 83.8 مليار جنيه، وسط تحذيرات من أن استمرار الاقتراض بهذا الإيقاع سيجعل الدين العام البريطاني يتجاوز قريباً 2.7 تريليون جنيه إسترليني، أي ما يقارب 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى يهدّد التصنيف الائتماني إذا لم تتخذ إجراءات جادة لضبط الموازنة.

وصعدت العوائد على السندات الحكومية طويلة الأجل إلى 5.7%، ما جعل الفوائد تلتهم نحو عشرة% من الإنفاق العام، وباتت الحكومة تدفع الآن أعلى تكلفة للاقتراض منذ أزمة الديون في التسعينيات، ما يقلص هامش المناورة أمام صانعي السياسة المالية ويجبرهم على البحث عن موارد إضافية عبر رفع الضرائب أو خفض الإنفاق الرأسمالي. ويواجه وزير المالية معضلة بين فرض ضرائب جديدة أو خفض الإنفاق العام، بينما بنك إنكلترا اختار تثبيت الفائدة عند خمسة% وأبطأ وتيرة بيع السندات في محاولة لتهدئة الأسواق بعد تراجع الجنيه الإسترليني.عجز متزايد في فرنسا بدورها تواجه فرنسا ضغوطاً متزايدة بعد خفض وكالة فيتش تصنيفها الائتماني إلى A+، وهو أدنى مستوى على الإطلاق. العجز المالي بلغ 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي، والحكومة تخطط لخفض الإنفاق بمقدار 44 مليار يورو خلال السنوات الثلاث المقبلة، لكن الاحتجاجات الشعبية المستمرة ضدّ رفع سن التقاعد تجعل تمرير الإصلاحات أكثر صعوبة، وتزيد مخاطر خفض التصنيف مجدداً. ويحذر محللون من أن استمرار العجز عند هذا المستوى سيجعل الدين الفرنسي يتجاوز 130% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عقد من الزمن، ما قد يضعه في نفس فئة الاقتصادات الأكثر هشاشة في منطقة اليورو مثل إيطاليا واليونان. وتشير تقديرات وزارة المالية إلى أن مدفوعات الفوائد قد تصبح البند الأكبر في الموازنة بحلول 2030 إذا بقيت العوائد مرتفعة، وهو ما سيجبر الحكومة على خفض الإنفاق الاستثماري وتأجيل مشاريع البنية التحتية الكبرى.

وبدأت الأسواق المالية بالفعل في تسعير المخاطر المرتبطة بفرنسا، إذ ارتفع الفارق بين عوائد السندات الفرنسية ونظيرتها الألمانية إلى أعلى مستوى منذ أزمة ديون منطقة اليورو في 2012، ما يعني أن المستثمرين يطلبون علاوة مخاطرة أعلى لشراء الديون الفرنسية. وهذه الزيادة في كلفة التمويل تجعل أي تراجع في النمو الاقتصادي أكثر خطورة. وعلى مستوى أوسع، تواجه أوروبا ضغوطاً مالية متزايدة مع ارتفاع عجز الموازنات وتكاليف خدمة الدين في معظم دول منطقة اليورو. فقد اقترب الدين الإيطالي من 140% من الناتج المحلي، بينما تجاوز الدين الإسباني 109% وسط تباطؤ اقتصادي وتراجع عائدات الضرائب. وتشير بيانات البنك المركزي الأوروبي إلى أنّ متوسط العائد على السندات الحكومية في منطقة اليورو ارتفع إلى أعلى مستوى منذ أكثر من عشر سنوات.

قد يعجبك ايضا