كيف هرب كبار أعوان الأسد من سوريا وضاعت العدالة؟
المرفأ …مع انهيار نظام سوريا، كانت عيون العالم على رحلة هروب بشار الأسد. وخلفه، قام مسؤولون محوريون في حكمه الوحشي بعملية خروج جماعي، تكاد لا تُكتشف.
يكشف هذا التحقيق، الذي يُعد من أكثر المواد توثيقًا حول مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، تفاصيل عملية الهروب الجماعي لكبار أعوان النظام السوري في أعقاب انهياره المفاجئ في ديسمبر 2024.
كما يتتبع التحقيق، مدعومًا بالأدلة والشهادات والوثائق المصورة، الطرق التي استخدمها كبار الضباط والمسؤولين للفرار من دمشق إلى الساحل السوري ثم إلى موسكو، بمساعدة مباشرة من القوات الروسية، مسلطًا الضوء على التحديات التي تواجه العدالة السورية والدولية في ملاحقة المتورطين بجرائم الحرب.
لم تمضِ فترة طويلة بعد منتصف الليل في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، حتى تجمع العشرات في الظلام خارج القسم العسكري من مطار دمشق الدولي. حاملين ما استطاعوا حَزمه، صعدوا إلى طائرة صغيرة تابعة للخطوط الجوية السورية.
قبل ساعة فقط، كانوا جزءاً من نخبة شكّلت العمود الفقري لأحد أكثر الأنظمة وحشية في العالم. الآن، في أعقاب السقوط المفاجئ للرئيس بشار الأسد وفراره من البلاد، صاروا فارّين، يتخبطون مع عائلاتهم للهرب.
كان من بين الركاب قحطان خليل، مدير استخبارات سلاح الجو في سوريا، المتهم بالمسؤولية المباشرة عن واحدة من أدمى المجازر في حرب البلاد الأهلية المستمرة منذ 13 عاماً.
وانضم إليه علي عباس وعلي أيوب، وهما وزيرا دفاع سابقان يواجهان عقوبات بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان وفظائع ارتُكبت خلال الصراع.
كما كان هناك رئيس الأركان عبد الكريم إبراهيم، المتهم بتسهيل التعذيب والعنف الجنسي ضد المدنيين.
رُويت لـ«نيويورك تايمز» رواية وجود هؤلاء وغيرهم من شخصيات النظام على متن الرحلة، من قبل راكب وشخصين آخرين من المسؤولين السابقين المطلعين على الرحلة.
علي عباس، وعلي أيوب، وعبد الكريم إبراهيم كانوا من كبار المسؤولين في سوريا، وجميعهم متهمون بتصدر الاستخدام العسكري للعنف العشوائي.
مع اقتراب هجومٍ خاطف للمتمردين من العاصمة السورية، جاء فرار السيد الأسد المتكتم خارج دمشق في وقت سابق من تلك الليلة مفاجئاً لدائرته الأضيق، وأصبح رمزاً للسقوط المذهل لنظامه.
سارع أتباعه للحاق به. خلال ساعات، لم تنهَر أركان منظومة قمع كاملة فحسب، بل تلاشت.
بعضهم استقل رحلات جوية. وآخرون أسرعوا إلى فيلاتهم
الساحلية وانطلقوا بقوارب سريعة فاخرة.هرب بعضهم في مواكب سيارات فارهة، فيما كان المتمردون عند نقاط التفتيش المنشأة حديثاً يلوّحون لهم دون دراية. واختبأ قلة في السفارة الروسية، التي ساعدت في تهريبهم إلى موسكو، الحليف الأهم للسيد الأسد.
بالنسبة لآلاف السوريين الذين فقدوا أحباءهم، أو تعرّضوا للتعذيب أو السجن أو التهجير على يد نظام الأسد، أصبحت وطنهم مسرح جريمة اختفى منه المشتبه بهم الرئيسيون جماعياً.
بعد عشرة أشهر على انهيار النظام، تواجه أمة محطمة بالحرب ليس فقط التحدي الهائل لإعادة البناء، بل أيضاً المهمة الشاقة المتمثلة في تمشيط العالم للعثور على الأشخاص الذين ارتكبوا بعض أسوأ الجرائم التي ترعاها الدولة في هذا القرن ومحاسبتهم.
يحاول مقاتلون سابقون من المتمردين وحكومة سوريا الناشئة تحديد أماكنهم عبر المخبرين، واختراقات الحواسيب والهواتف، أو عبر أدلة جُمعت من مقارّ النظام المتروكة. ويبني المدعون في أوروبا والولايات المتحدة قضايا أو يعيدون فتحها.
كما تجمع جماعات المجتمع المدني السورية ومحققو الأمم المتحدة الأدلة والشهود، استعداداً لمستقبل يأملون فيه تحقيق العدالة.
أهدافهم من أكثر الأشخاص تملصاً في العالم. كثير منهم امتلك سلطة هائلة لعقود، ومع ذلك ظلّوا ألغازاً عامة: أسماؤهم الحقيقية، وأعمارهم، وفي بعض الحالات حتى ملامحهم، كانت مجهولة.
أدى هذا الشحّ في المعلومات مراراً إلى أخطاء في التقارير الإعلامية، وعلى قوائم العقوبات وإنفاذ القانون.
ومن المرجح أنه ساعد بعض أسوأ الفاعلين سمعةً في النظام على الإفلات من السلطات السورية والأوروبية منذ سقوط السيد الأسد.
وسائل الاختفاء
على مدى الأشهر الماضية، عمل فريق تقارير في «التايمز» على ملء الفراغات حول أدوار وهويات حقيقية لـ55 من مسؤولي هذا النظام، جميعهم شخصيات حكومية وعسكرية سابقة رفيعة تظهر على قوائم العقوبات الدولية ومرتبطة بالفصول الأكثر دموية في التاريخ الحديث لسوريا.
شملت التحقيقات كل شيء من تتبع الآثار الرقمية وحسابات عائلاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تمشيط الممتلكات المتروكة بحثاً عن فواتير هاتف قديمة ومعلومات بطاقات ائتمان.
وأجرى الصحفيون مقابلات مع عشرات المسؤولين السابقين في النظام، تحدث كثيرون منهم بشرط عدم الكشف عن هوياتهم لدواعٍ أمنية، وكذلك مع محامي حقوق إنسان سوريين، وجهات إنفاذ القانون الأوروبية، وجماعات مجتمع مدني، وأفراد من الحكومة السورية الجديدة. وزاروا عشرات الفيلات والأعمال المتروكة المرتبطة بوجوه النظام، وأعادوا بناء بعض طرق هروبهم.
اختيارات المحررين
لا تزال أماكن وجود كثير من هؤلاء المسؤولين الـ55 الرئيسيين السابقين الذين مكّنوا دكتاتورية السيد الأسد مجهولة، لكن من بين الدزينة التي عثرت عليهم «التايمز»، تتباين مصائرهم على نطاق واسع.
السيد الأسد نفسه في روسيا ويبدو أنه قطع اتصاله بمعظم دائرته الرسمية، وفقاً لمسؤولين سوريين سابقين وأقارب ومعارف.كما يشار إلى منطقة قرى الأسد، التي كانت تُعرف كمقر إقامة للنخبة العسكرية والسياسية المقربة من الرئيس، وقد أُعيدت تسميتها إلى قرى الشام في عام 2024.
“لقد رحل”
بدأ الخروج الجماعي في وقت متأخر من ليلة 7 ديسمبر/كانون الأول 2024، بعد لحظة إدراك صارخة.
لساعات، كان عدد من كبار مساعدي السيد الأسد المنتظرين قرب مكتبه في القصر الرئاسي يجيبون بثقة على مكالمات زملائهم وأقاربهم، بحسب ما قال عدة مسؤولين من عهد النظام كانوا على اتصال بهم تلك الليلة. وأكد مسؤولو القصر لهم أن الرئيس هناك، يصوغ خطة مع قادته العسكريين ومستشاريه الروس والإيرانيين لمواجهة تقدم قوات المتمردين.
قال شاهدان إن الناس اتجهوا إلى القاعدة الروسية حاملين حقائب مليئة بالنقد والذهب. وأضافا أن الزيّ العسكري السوري المخلوع كان متناثراً في كل مكان.
وبحسب ثلاثة مسؤولين سابقين، هرع بعض المسؤولين لإعادة التجمع والتحدث إلى ضباط روس كانوا سينقلونهم بطائرات إلى موسكو في الساعات والأيام التالية.
أما العديد من أفراد عائلات شخصيات النظام فاختاروا بدلاً من ذلك أن تُقلهم سيارات إلى منازلهم الساحلية القريبة من القاعدة.
نهب الخزائن وتجنّب الكمائن
في دمشق، كان نحو 3,000 عنصر من أجهزة الاستخبارات العامة لا يزالون داخل المجمع الأمني الممتد في جنوب غرب العاصمة، غير مدركين أن نخب النظام قد فرت بالفعل. كانوا ينتظرون في حالة تأهب قصوى تحت إمرة مديرهم، حسام لوقا—وهو مسؤول أشرف على الاعتقال الجماعي والتعذيب المنهجي.
حسام لوقا، أقصى اليسار، مسؤول سوري سابق متورط في الإشراف على الاعتقال الجماعي والتعذيب المنهجي. يُرى هنا مع اثنين آخرين تحقق «التايمز» بشأنهما أيضاً: سهيل الحسن وعلي أيوب، الثالث والخامس من اليسار.
ووصف أحد كبار ضباط السيد لوقا مديرَه بأنه شديد التوقير للسيد الأسد. وقال: «لم يكن ليحرّك منفضة سجائر من هنا إلى هناك دون أن يطلب الإذن من بشار».
واستذكر الضابط أنهم تلقوا أوامر بالاستعداد لهجوم مضاد. لكن الأمر لم يصدر أبداً. وقال صديق للسيد لوقا إنه اتصل مراراً بمدير الاستخبارات تلك الليلة لطلب تحديثات، وكان يطمئنه دائماً بأنه لا يوجد ما يُخشى. ثم، عند الساعة الثانية صباحاً، أجاب السيد لوقا على الهاتف على عجل ليقول إنه يحزم أمتعته للفرار.
وسرعان ما جهّز السيد حسن موكباً من ثلاث سيارات تحمل زوجته، وأبناءه البالغين، وحقائب محشوة بالمال، وفقاً لاثنين ممن اطّلعوا على قصته. وكان قلقاً للغاية من هجوم محتمل لدرجة أنه جعل زوجته وأولاده يستقلون سيارات مختلفة، كما قال أحد معارفه، لتجنّب إصابة العائلة كلها دفعة واحدة.
وحين اقترب موكبهم من مدينة حمص، على بُعد نحو 100 ميل شمال دمشق، أوقف المتمردون السيارة الأولى، وهي سيارة رياضية متعددة الاستخدامات، وأجبروا زوجة السيد حسن وابنته على النزول. وأُمِرَتا بترك كل شيء داخل المركبة، حتى حقائب اليد، وفقاً لشاهد.
وبدا أن المتمردين اكتفوا بغنيمتهم، فلم يولوا أي اهتمام حين صعدت المرأتان إلى السيارة الثانية، لتنضمّا إلى أحد أكثر أعوان نظام الأسد رهبةً.
كانت فرص المتمردين للتعرف عليه ضئيلة. فقد دارت في الإعلام منذ زمن صور مزيفة للسيد حسن. وحتى حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا لا تستخدمان الاسم الصحيح أو سنة الميلاد الصحيحة للسيد حسن في وثائق العقوبات الخاصة به. وقد حصلت «التايمز» على أحدث صورة ربما تكون الوحيدة الموثّقة للسيد حسن وتحققت منها.
وبعد اجتياز نقطة التفتيش، شقّ السيد حسن طريقه في نهاية المطاف إلى لبنان ثم إيران بمساعدة مسؤولين إيرانيين، وفقاً لمقابلات مع مسؤولين من نظام الأسد ولبنان والولايات المتحدة.ومنذ ذلك الحين عاد إلى بيروت كجزء من صفقة لتقديم معلومات لمسؤولي الاستخبارات الأميركية. وقال معارف إنه كان يمضي وقته في المقاهي والمطاعم الفاخرة مع زوجته. وعندما تم الاتصال به على رقم «واتساب» لبناني، رفض إجراء مقابلة.
واقع مُرّ
بالنسبة لعشرات آلاف السوريين الذين كانوا ضحايا نظام الأسد، تبدو مساعي العدالة بلا وجهة.
لا يزال السؤال مطروحاً عما إذا كانت الحكومة الحالية، برئاسة الزعيم الإسلامي السابق أحمد الشرع، لديها القدرة أو الإرادة لملاحقة مسؤولي الأسد المتهمين بجرائم حرب بشراسة—الأمر الذي من شأنه، بدوره، أن يسلّط الضوء أيضاً على الجرائم المزعومة لبعض مسؤوليها.
ومع انقسام القوى الأجنبية طويلاً حول الحرب في سوريا والانتفاضة ضد دكتاتورها السابق، فليس هناك أمل كبير في قيام محكمة دولية أيضاً.
بالنسبة لأولئك الذين يقاتلون لضمان ألا تتلاشى جرائم النظام في طيّات التاريخ، يبقى واقع مُرّ: كبار منفذي أوامر السيد الأسد ما زالوا يعيشون بالبذخ، وما زالوا خطوة متقدمة على مطارديهم.
وقال صديق لعدة مسؤولين كبار سابقين في النظام: «رجال الأسد يشربون الويسكي ويلعبون الورق في موسكو، أو يسترخون في بعض الفيلات. لقد نسوا أي مكان كان يُسمى سوريا».
من قام بهذا التحقيق في النيويورك تايمز:
المادة التالية ترجمة كاملة لتقرير موسّع نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بعنوان:
“The Vanishing Act: How Assad’s Top Henchmen Fled Syria, and Justice” نُشر التقرير بتاريخ 16 أكتوبر 2025 على موقع The New York Times الإلكتروني، وهو من إعداد الصحافيين: إريكا سولومون (Erika Solomon)، كريستيان تريبرت (Christiaan Triebert)، هايلي ويليس (Haley Willis)، أحمد مهدي (Ahmad Mhidi)، وداني مكي (Danny Makki)، بمشاركة إضافية من ديفون لوم ونيل كولير في إعداد التقارير، وكريستوف كوتل في تحليل صور الأقمار الصناعية.
ساهم ديفون لَم ونيل كولير في إعداد التقارير. وساهم آرون بيرد في إنتاج الرسوم المتحركة. وقدّم كريستوف كويتِل تحليلاً إضافياً لصور الأقمار الصناعية.
وكريستيان تريبرت مراسل في «التايمز» يعمل ضمن فريق التحقيقات البصرية، وهو فريق يجمع بين الصحافة التقليدية والتحري الرقمي وتحليل الأدلة المرئية للتحقق من الحقائق ومصدرها من أنحاء العالم. ومعهم هايلي ويليس مراسلة في «التايمز» ضمن فريق التحقيقات البصرية، تغطي الصراعات والفساد وحقوق الإنسان.
الغد