العفو عن نتنياهو… سقوط القناع الأخير عن “الديمقراطية الإسرائيلية”

5٬484
المرفأ- تواصل إسرائيل الادعاء في المحافل الدولية بأنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، رغم أنّ واقعها على الأرض يكشف منظومة ممتدة من الاحتلال وانتهاكات حقوق الإنسان، واتهامات موثقة بارتكاب جرائم حرب في غزة، واعترافات من جيشها بأن غالبية ضحايا الحرب الأخيرة كانوا من المدنيين، إلى جانب قوانين تُكرّس التفوق اليهودي وتضع الفلسطينيين في مرتبة قانونية أدنى.
ومع أنّ هذا الادعاء لم يكن مقنعا في أي وقت، إلا أن الجدل المتصاعد حول سعي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للحصول على عفو قبل الإدانة، يكشف الوجه الأوضح لنظام سياسي يضع السلطة فوق القانون حين يتعلق الأمر برأس الهرم.
نتنياهو بين ملفات الفساد ومحاولة الهروب من القضاء
تعود جذور الأزمة إلى عام 2020، عندما بدأت محاكمة نتنياهو في ثلاث قضايا فساد كبرى تُعرف بملفات 1000 و2000 و4000، وتشمل تلقي هدايا ثمينة من رجال أعمال مقابل امتيازات تنظيمية وصفقات تغطية إعلامية.
وخلال سنوات التحقيق والمحاكمة، ظهر نتنياهو باستمرار أمام المحكمة، لكنه لجأ مراراً إلى طلبات تأجيل بحجج أمنية أو سياسية، ما فُسِّر في الأوساط القانونية كمسعى لإطالة أمد المحاكمة بانتظار تغيّر الظروف.
وتحوّل المشهد إلى أزمة سياسية حين كشف تقرير لوكالة “أسوشييتد برس” أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تدخّل بشكل مباشر، عبر رسالة رسمية للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، طالب فيها بالعفو عن نتنياهو، واصفاً المحاكمة بأنها “اضطهاد سياسي”.
أثار هذا التدخل موجة انتقادات واسعة، ليس فقط لتأثيره على سير العدالة، بل لتجاوز رئيس دولة أجنبية حدود اللياقة الدبلوماسية ومحاولة التأثير العلني على مسار قضائي داخلي.
طلب عفو غير مسبوق.. والمسار الديمقراطي على المحك
في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، تقدّم نتنياهو بطلب رسمي من 111 صفحة للرئيس هرتسوغ يطلب فيه “عفواً كاملاً” قبل صدور أي حكم، ومن دون اعتراف بالذنب أو التزام باعتزال السياسة.
وقد رأى خبراء القانون في إسرائيل أن هذا الطلب يشكّل “مقامرة سياسية” غير مسبوقة، ليس فقط لأنه يطلب إغلاق قضية قبل انتهاء المحاكمة، بل لأنه يناقض الممارسة الثابتة التي تحصر العفو في مرحلة ما بعد الإدانة.

وتشير المؤسسات القانونية الإسرائيلية، وعلى رأسها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، إلى أن سلطة العفو موجودة نظرياً في القانون، لكنها تُستخدم تقليدياً بعد انتهاء المسار القضائي، وليس لوقف محاكمة قائمة. كما أنّ مكتب الرئيس نفسه يؤكد أن طلبات العفو تُنظر عادة بعد أن تُصدر المحاكم حكمها النهائي، ما يجعل طلب نتنياهو استثناءً يمسّ صلب مبدأ الفصل بين السلطات.
ولا يقتصر القلق على الجانب القانوني فحسب، فنتنياهو ما زال في مرحلة الاتهام، ولم يصدر بحقه أي حكم، وبالتالي فإن منحه العفو الآن يعني عملياً إغلاق ملف قضائي من دون تمكين المحكمة من قول كلمتها. في القانون المقارن، يُعدّ العفو عن متهم قبل الإدانة تدخلاً مباشراً في القضاء، إلا إذا كان عبر قانون عفو عام صادر عن البرلمان، وهو أمر غير مطروح في إسرائيل حالياً.
تأثير ترامب وتسييس القضاء
تزايدت حدة الجدل بعد انكشاف رسالة ترامب، إذ استغلّ معسكر نتنياهو هذا الدعم الخارجي لتعزيز رواية “القضاء المسيّس” التي يكررها رئيس الوزراء منذ سنوات، بينما رأت المعارضة أن تدخل ترامب يشكّل ضغطاً على مؤسسة يفترض أن تكون محايدة، ويحوّل قضية فساد إلى صراع سياسي دولي.
وتعتبر الأوساط الحقوقية أن تدخل دولة أخرى في مسار قضائي محلي هو انتهاك لسيادة القضاء، ويُعد جزءاً من موجة عالمية تستخدم فيها التيارات الشعبوية رواية “المؤامرة” لتقويض الثقة بالنظام القضاء.
قراءة قانونية وحقوقية وديمقراطية للطلب
يتفق معظم الخبراء على أن منح عفو لنتنياهو في هذا التوقيت سيعني إبطال سنوات من التحقيقات، وإرسال رسالة خطيرة مفادها أن رأس السلطة التنفيذية يقف فوق العدالة، وأن العفو يمكن أن يتحول من أداة رحمة إلى أداة حصانة سياسية.
كما أن التجربة الإسرائيلية حافلة بسوابق تؤكد أن القانون طُبّق على مسؤولين كبار، مثل رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت الذي دخل السجن بعد إدانته بالفساد، ما يجعل منح نتنياهو معاملة استثنائية تقويضاً لمبدأ المساواة أمام القانون.
ومن ناحية حقوق الإنسان، يُطرح سؤال جوهري حول ما إذا كان من المقبول استخدام “أسباب إنسانية” لمنح العفو لرئيس وزراء متهم بالفساد، بينما آلاف السجناء لا يحصلون على معاملة مشابهة.
أما على المستوى الديمقراطي، فإن الطلب يشكّل اختباراً لمدى قدرة إسرائيل على الحفاظ على استقلال القضاء في ظل ضغوط سياسية هائلة، خصوصاً عندما يأتي الضغط من داخل الدولة ومن خارجها في آن واحد.
بين القانون والزعيم.. مستقبل النظام السياسي في إسرائيل
تُجمع القراءات القانونية والسياسية على أن إسرائيل تقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم. فإذا استُجيب لطلب نتنياهو كما هو، أي عفو قبل الإدانة ومن دون اعتراف أو انسحاب من الحياة العامة، فإن ذلك سيشكل سابقة تمهّد لنسف تقاليد العمل القضائي، وقد تُستخدم لاحقاً لمنح حصانات سياسية لأي مسؤول يواجه قضايا فساد. أمّا إذا رُفض الطلب أو فُرضت شروط قانونية صارمة، فستسعى الدولة إلى إثبات أن مؤسساتها ما زالت قادرة على حماية مبدأ “لا أحد فوق القانون”.

في جوهر هذه الأزمة يبرز سؤال أكبر من محاكمة فساد وأوسع من اسم نتنياهو نفسه: من يحكم إسرائيل اليوم… القانون أم الزعيم؟
فالعفو الذي يُستخدم في معظم الدول كأداة رحمة، يكاد يتحول هنا إلى أداة سياسية لإلغاء محاكمة قائمة، في خطوة تكشف هشاشة الأسس الديمقراطية التي طالما تباهت بها إسرائيل أمام العالم.

قد يعجبك ايضا