«تراجع القراءة في عصر الشاشات: أزمة وعي تهدد المستقبل الثقافي»

3٬295

المرفأ- بقلم: الدكتورة إيمان سماحة
لم تكن القراءة يومًا نشاطًا ترفيهيًا عابرًا، بل كانت ولا تزال ركيزة أساسية في بناء الوعي الإنساني وصقل الفكر. غير أن الواقع المعاصر يكشف عن تراجع مقلق في الإقبال على القراءة، تراجع لا ينفصل عن التحولات الرقمية المتسارعة التي غيّرت أنماط التلقي، ورسّخت ثقافة المحتوى السريع على حساب المعرفة المتعمقة.
لقد أسهم الانتشار الواسع للهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي في اختزال المعرفة داخل عناوين لامعة ومقاطع قصيرة، تُشبع فضولًا مؤقتًا دون أن تبني عقلًا ناقدًا. ومع الوقت، تراجع الصبر الذهني اللازم للقراءة المتأنية، وحلّت السطحية محل التأمل، فأصبح الكتاب في منافسة غير عادلة مع شاشة لا تتطلب جهدًا ولا تركيزًا.

ومن واقع تجربتي الأكاديمية، يظهر هذا التراجع بوضوح داخل قاعات الدراسة؛ إذ لوحظ لدى عدد غير قليل من الطالبات عزوف شبه كامل عن القراءة الحرة، واقتصار تعامل بعضهن مع المعرفة على حفظ كلمات معدودة تُستدعى في ورقة الامتحان لتحصيل الدرجات فقط، دون اهتمام حقيقي بالقراءة لذاتها أو بتثقيف النفس في شتى المجالات. وهو واقع يعكس فراغًا ذهنيًا لا يرتبط بضعف القدرات بقدر ما يرتبط بغياب الدافع وتراجع قيمة المعرفة.
ولا تقتصر خطورة هذا الوضع على الجانب التعليمي فحسب، بل تمتد إلى بنية التفكير ذاتها؛ فالقراءة المنتظمة تنمّي التحليل والنقد، وتُثري اللغة، وتوسّع الأفق. أما الابتعاد عنها فيُضعف القدرة على الفهم العميق، ويجعل العقول أكثر قابلية للانقياد خلف الأفكار الجاهزة والمعلومات السطحية.
كما تتحمل الأسرة والمؤسسات التعليمية والإعلام مسؤولية مشتركة في هذه الأزمة؛ فغياب القدوة القارئة داخل البيوت، وضعف آليات التحفيز في المدارس والجامعات، وهيمنة المحتوى الترفيهي على المشهد الإعلامي، كلها عوامل تُسهم في إضعاف علاقة الأجيال بالكتاب، وتحويل التعلم إلى مجرد اجتياز للاختبارات.
ورغم قتامة المشهد، فإن الأمل لا يزال قائمًا إذا ما أُعيد الاعتبار للقراءة بوصفها أسلوب حياة لا واجبًا دراسيًا مؤقتًا، من خلال مبادرات جادة، وتوظيف أدوات العصر الرقمية في خدمة الكتاب، وتشجيع القراءة الحرة داخل المؤسسات التعليمية.

وفي النهاية، فإن الرسالة التي ينبغي أن تصل إلى طالباتنا بوضوح هي أن العلم لا يُختزل في ورقة امتحان، ولا تُقاس المعرفة بعدد الدرجات، بل بعمق الفهم واتساع الأفق. فالقراءة الحرة ليست عبئًا إضافيًا، بل هي الطريق الأصدق لبناء شخصية واعية، قادرة على التفكير والاختيار والمشاركة الفاعلة في المجتمع. وحين نغرس حب القراءة في النفوس، نكون قد وضعنا الأساس الحقيقي لتعليم يصنع عقولًا حيّة، لا ذاكرة مؤقتة تنتهي بانتهاء الامتحان.

قد يعجبك ايضا