المرفأ.عدت من إسطنبول، حيث شاركت في ورشة عمل عن “سيناريوهات المستقبل بعد ما يسمى صفقة القرن”. في البداية كنت مترددًا في الذهاب، لأن وزارة الصحة حذرت من عقد الورشات والمؤتمرات ومن السفر إلا للضرورة القصوى، لكنني عزمت الأمر، وسافرت، واعتمدت في قراري على ضرورة استمرار العمل مع أخذ الحيطة والحذر، على قاعدة “اعقل وتوكل”، وبالفعل هكذا كان شعوري أثناء الذهاب، ولكنه تغيّر إلى حد ما أثناء العودة.
ففي رحلة السفر بدءًا من الجسر وجدت الأمور عادية، باستثناء أن بعض أفراد الشرطة الفلسطينية يلبسون الكمامات، وكذلك الأمر على الحدود الأردنية، وفي مطار الملكة علياء، ومطار إسطنبول الذي يعدّ من أكثر المطارات حركة وازدحامًا. أما جنود الاحتلال والموظفون فلم يلبس أي منهم الكمامات لا أثناء الذهاب ولا الإياب، وهذا يستدعي التأمل.
وفي طريق العودة، كانت الوجوه حذرة، والخوف واضح عليها، والكمامات أكثر بشكل ملموس، وبأنواع مختلفة، مع أنه اتضح أن الكمامات ضرورية للمصاب حتى لا يعدي الآخرين، وأنها في الغالب ضارة لغيره كون المتوفر منها غير مناسب، والمناسب بحاجة إلى تغيير كل ساعات عدة. ونصحونا في مطار الملكة علياء بشراء (Air Doctor)، على أساس أنه يوفر الحماية من الفيروسات والميكروبات لمدة شهر عن طريق إبعادها لمسافة متر.
أصدقكم القول إنني كنت خائفًا أثناء رحلة العودة رغم الاحتياطات، فكما يقول المثل “اللي ما بخاف ما بخوّف”، خصوصًا بعدما عرفت أن الإنسان يلمس وجهه يوميًا بمعدل 3 آلاف مرة، والفيروس اللعين يبقى على الأسطح لعدة أيام وينتقل باللمس.
وفي مشهد آخر، بدت المطارات التي كانت تعجّ بالمسافرين تقريبًا خالية من الركاب، مسببة خسائر بعشرات المليارات من الدولارات لشركات الطيران وحدها، وسط تقديرات بأن خسائر الأسواق المالية في يوم واحد بلغت أكثر من 6 تريليون دولار. أما الخسائر الاقتصادية فيصعب حصرها كليًا، فمعدل النمو وصل في الصين إلى أقل نسبة منذ زمن طويل. وهذا يزيد من احتمالات اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية هذا العام، التي حذر منها د. طلال أبو غزالة وغيره، ولكن لأسباب لا علاقة لها بكورونا، بل لأسباب عديدة، منها أنّ الدَّيْن العالمي تجاوز ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالي العالمي، والخلاف حول حقوق الملكية والرسوم الجمركية، والأهم التنافس والصراع على قيادة العالم، ولإيجاد نظام عالمي جديد، فإدارة ترامب تريد أن توقف عجلة التاريخ، وأن تبقى سيدة العالم بلا منازع، في وقت أخذ يطل فيه عالم متعدد الأقطاب برأسه، ولا يمكن وقف تقدمه، لأن حقائق الاقتصاد والتفوق التكنولوجي والعسكري تتحدث عن نفسها، فلم تعد الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الأولى، ولن يمضي وقت طويل (عشر سنوات) قبل أن تصبح في المرتبة الثالثة بعد الصين والهند.
وهناك من يعتقد أن الفيروس مركبًا بشريًا، وأن أيدي أميركية تقف وراءه لوقف تقدم الصين، ومنعها من قيادة العالم، مع أن مؤسسات دولية لها مصداقية عالية تنفي هذا الاحتمال، لأن الفيروس سبّب وباءً عالميًا، ولا يعرف الحدود، ولا يستثني أحدًا. وقد أشار د. وليد عبد الحي في مقال له، إلى بيان وقعه 27 عالمًا من أشهر علماء الصحة العامة في العالم وينتمون لتسع دول مختلفة، ليست الصين بينها، نُشِرَ في مجلة (The Lancet) الشهيرة، أدانوا فيه نظرية المؤامرة، وأكدوا أن العامل المسبب لفيروس كورونا نشأ في الحياة البرية مثله مثل العديد من مسببات الأمراض.
وإذا عدنا إلى فيروس الكورونا، أقول كيف لا نخاف عندما نسافر، ونحن نسمع عن انتقال المرض من بلد إلى آخر عبر مسافرين، فخطورة هذا الفيروس أن حضانته طويلة، وأن المصاب به يعدي الآخرين في كثير من الحالات قبل أن تظهر أعراض المرض عليه، فضلًا عن أنه ينتقل بالعطس ولمس الأسطح المختلفة. رغم ما سبق، أعتقد أن هناك مبالغات مخلّة لا داعي لها تسبب الذعر والهلع لأسباب مختلفة، مثل توظيف الفيروس لخدمة أهداف سياسية، فلو أن الأمر كما يقال لانتشر المرض انتشار النار في الهشيم، ولما تمت السيطرة عليه في الصين. فأيام الذروة في انتشار المرض بالصين أصبحت وراءنا، واحتمال موت المصابين لا يتجاوز 2%، وأقل من 1% لمن لا يعانون من الأمراض، بدليل تماثل عشرات الآلاف من المصابين للشفاء، حتى أن بعضهم شفي من دون علاج. وإذا عدنا إلى ورشة إسطنبول، فقد خيّم عليها الكورونا، فلم يأت بعض المدعوين خشية الإصابة بالفيروس، أو من تعرضهم للحجر الصحي بعد عودتهم.
وأخذت “صفقة ترامب نتنياهو” وخيار الدولة الواحدة القسط الأكبر من النقاش، إذ انطلق الحوار من أنها مؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية، ولكنها توفر فرصة إذا استُغلت كما يجب بالبناء على الرفض الفلسطيني العارم لها من خلال بلورة إستراتيجية جديدة قادرة على تغيير المسار. ورغم تساوق بعض العرب معها إلا أنه لم يجرؤ على الدفاع عنها في اجتماعات وزراء الخارجية العرب والبرلمانيين العرب ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي، وهناك رفض عالمي واسع لها، حتى من 107 أعضاء في الكونغرس الأميركي، ومن بعض الصهاينة الذين توجسوا ريبة منها؛ خشية من أن تلحق أضرارًا بإسرائيل على المديين المتوسط والبعيد.
وتناولت الورشة خيارات الفلسطينيين، هل يعودون إلى نقطة الصفر، ويتخلون عما يسمى “حل الدولتين” ويتبنون حل الدولة الواحدة؟ والسؤال الذي يطرح نفسه على طاولة البحث إذا وضع هذا الخيار هو: أي صيغة من صيغ هذه الدولة هي الأنسب؛ تحرير فلسطين، وبعد ذاك البحث في كيفية التعامل مع اليهود؛ أم دولة ديمقراطية لكل مواطنيها؛ أم دولة ثنائية القومية؛ أم دولة إسلامية؛ أم ماذا؟
وتكتسب فكرة ضرورة هزيمة المشروع الاستعماري الذي تجسّده إسرائيل، وتفكيك نظام الامتيازات لليهود أهمية كبرى، فهي شرط ضروري حتى لا يكون طرح الدولة الواحدة تسليمًا بقيام “إسرائيل الكبرى”، وهي سيادة دولة واحدة، وإبقاء الفلسطينيين في معازل آهلة تحت سيطرتها، ولكن خارجها، في ظل إنكار تام لوجود الشعب الفلسطيني وحقوقه، فلا بد من الحذر من طرح الدولة الواحدة وكأنها عصا سحرية وقابلة للتحقيق فورًا، وإنما مهمة بعيدة المنال بحاجة إلى نضال طويل لتغيير موزاين القوى، ولا من أجل التهرب من مواجهة التحديات الراهنة المترتبة على رؤية ترامب، خصوصًا إذا تم تنفيذ ما جاء فيها من ضم للأغوار والمستعمرات الاستيطانية ، وإنما لمواجهتها بشكل أقوى وأفضل.
وما عزز هذا المنطلق أن الرؤية تضمنت بندًا يتحدث عن ضم “المثلث” للدولة الفلسطينية “العتيدة”، وهذا يعني تطهيرًا عرقيًا، ويؤكد أن إسرائيل لا تريد ضم الأرض والسكان أصحاب البلاد الأصليين، بل تريد ضم أكبر مساحة من الأرض من دون سكان، أو بأقل عدد ممكن من السكان، تمهيدًا لتهجيرهم “طوعًا” أو قسرًا في مرحلة ووقت مناسب.
وجرى بحث مسألة حل السلطة، وتباينت الآراء بين من يرى حلها، وبين من يرى فك ارتباطها باتفاق أوسلو والتزاماته، لأن حلها غير مطروح عمليًا، فالمطروح استبدالها بسلطة أو سلطات متساوقة كليًا مع الاحتلال ومخططاته، مع عدم إغفال إمكانية انهيارها في خضم المواجهة مع الاحتلال؛ الأمر الذي يطرح ضرورة تحويلها إلى سلطة خدمية بلا مهمات سياسية، وكأداة في خدمة البرنامج الوطني المشترك، وفي يد منظمة التحرير الموحدة، تعزز صمود المواطن على أرض وطنه، وتكون مجاورة للمقاومة التي من دونها لا يمكن إنهاء الاحتلال وتحقيق حق العودة والاستقلال والمساواة، على طريق إقامة الدولة الواحدة على أساس المساواة بين الحقوق، وتفكيك وهزيمة نظام التمييز الاستعماري العنصري.
كما نوقشت فكرة إقامة منظمة تحرير جديدة، ولكن المحصلة كانت أن المنظمة أهم إنجاز حققه الشعب الفلسطيني، والمطلوب هو إعادة بنائها لتصبح قولًا وفعلًا الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ولكن السؤال: متى وكيف، وما الأدوات القادرة على تحقيق هذا الهدف، ما دام طرفا الانقسام يعطيان الأولوية للاحتفاظ بما لديهما من مكتسبات، وتحقيق إنجازات جديدة، وليس لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أساس وطني، وشراكة حقيقية، وديمقراطية توافقية تنسجم مع طبيعة المرحلة وأهدافها التي يمر بها الشعب الفلسطيني، مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي.