تكامل الذكاء البشري والاصطناعي في إنتاج المعرفة بقلم :ا.د دينا عبد الهادي

444

المرفأ…في زمن تتسارع فيه الابتكارات التقنية بشكل غير مسبوق، برز الذكاء الاصطناعي كشريك جديد في عملية إنتاج المعرفة إلى جانب العقل البشري ، وما كان يومًا حكرًا على الجهد البشري الفردي أصبح اليوم نتاجًا لتفاعل معقد بين الباحث والعقل الآلي. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية مساعدة، بل بدأ يفرض نفسه كشريك حقيقي في المنظومة البحثية، مما يثير أسئلة جديدة حول حدود العقل، وأصالة الإبداع، ومعنى المعرفة في العصر الرقمي.
عرف الباحث عبر العصور أدوات متعددة لتنظيم المعرفة، من المخطوطات القديمة إلى قواعد البيانات الرقمية. إلا أن دخول الذكاء الاصطناعي، خاصة النماذج اللغوية المتقدمة مثل ChatGPT وBERT وClaude قد شكّل قفزة نوعية في طريقة التعامل مع المعلومات. فهذه النماذج قادرة على معالجة نصوص معقدة، تلخيص المراجع، اقتراح أطر نظرية، بل وأحيانًا صياغة فرضيات بحثية أولية. في عام 2023، استخدم فريق من جامعة أوكسفورد الذكاء الاصطناعي لتحليل الخطاب السياسي في أرشيفات الأمم المتحدة الممتدة لعقود. وتمكن النظام من فرز وتحليل أكثر من مليون خطاب خلال أيام، وهو ما كان سيستغرق سنوات من العمل اليدوي البشري.
في زمن تزايد فيه الاعتماد على التكنولوجيا، بات الذكاء الاصطناعي عنصرًا فاعلًا في العملية البحثية. لم تعد الآلة مجرد أداة حسابية، بل أصبحت شريكًا معرفيًا قادراً على المساهمة في تحليل البيانات، توليد الأفكار، وحتى صياغة المقالات العلمية الأولية.
مثال على ذلك، استخدام باحثين من جامعة ستانفورد لنماذج لغوية مثل GPT لتحليل ملايين الوثائق الطبية بهدف رصد أنماط الأمراض النادرة. لم تكن الآلة هي من اكتشف الرابط، بل الباحث، لكن الآلة وفّرت له قدرة معالجة لا يمكن إنجازها بشريًا في الوقت نفسه.

هذا التحول أنتج ما يُعرف اليوم بـ”المعرفة الهجينة”، وهي نتاج تفاعل الذكاء البشري القائم على الحدس والتجربة، مع الذكاء الاصطناعي القائم على المعالجة الكمية والاحتمالية. لم يعد الباحث يعمل بمفرده، بل أصبح يقود فريقًا افتراضيًا من مساعدين رقميين يسهمون في جمع وتحليل وتنظيم المعرفة. ورغم قدرة هذه النماذج على صياغة نصوص مترابطة، فإنها لا تفهم المعنى بالمعنى الإنساني العميق، إذ تفتقر إلى الوعي بالتاريخ والسياق والبيئة. وهذا ما يجعل دور الباحث حاسمًا في توجيه هذه الأدوات والتحكم بمخرجاتها. إنها آلة قوية، لكنها بحاجة إلى عقل بشري يمنحها البوصلة والمعنى.
في خضم هذا التقدم، برزت تساؤلات أخلاقية لا يمكن تجاهلها. هل يجب الإفصاح عن مساهمة الذكاء الاصطناعي في صياغة المقال أو تصميم التجربة؟ من يتحمل المسؤولية عن الأخطاء أو الانحيازات التي قد تنتج عن استخدام نماذج غير شفافة؟ وهل يمكن اعتبار العمل الناتج “أصليًا” إن ساهمت فيه آلة؟ هذه الأسئلة دفعت دوريات علمية كبرى مثل Nature وScience إلى إعلان رفضها إدراج أنظمة الذكاء الاصطناعي كمؤلفين مشاركين، مع التشديد على ضرورة الإفصاح الواضح عن استخدام تلك الأنظمة في مراحل إعداد البحث وكتابته. وهو ما يؤكد أن هناك وعيًا متزايدًا بضرورة الحفاظ على أصالة العمل العلمي وشفافية أدواته.
التحولات الجارية لا تشير إلى تهميش دور الإنسان، بل إلى إعادة تعريفه. فالباحث الجديد هو من يجمع بين الحس التحليلي والقدرة على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وفعّال. الجامعات الرائدة مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة كامبريدج بدأت بالفعل في تطوير مناهج تجمع بين مهارات البحث العلمي وأساليب الذكاء الاصطناعي، لإعداد جيل جديد من الباحثين الذين لا يهابون الآلة، بل يتقنون قيادتها.
في نهاية المطاف، تبقى الآلة عاجزة عن طرح السؤال الحقيقي: لماذا؟ فهي لا تشعر بالدهشة، ولا تتأمل، ولا تخشى الجهل. هذه الصفات التي لا تزال حكرًا على الإنسان، هي ما يجعل الباحث لا غنى عنه، في كل عصر وتحت أي ظرف. الذكاء الاصطناعي قد يفتح الأبواب، لكنه يحتاج دائمًا من يقرر إلى أين يسير. وبين الباحث والآلة، تبدأ رحلة جديدة من إنتاج المعرفة، عنوانها الحقيقي: التعاون لا الاستبدال.

بقلم :ا.د دينا عبد الهادي
استاذ الاحصاء ووكيل كلية التجارة للدراسات العليا والبحوث
جامعة طنطا
[email protected]

 

قد يعجبك ايضا