حكمة التفلسف والطب الفلسفى بقلم الدكتورة فاطمة الزهراء سالم

553

المرفأ…يتجلى إلى مسامعنا كثيراً عبارات الطب الروحى أو الرياضة الروحية ، وتفهم أذهاننا أنها لون من ألوان الزهد ، والقراءة الروحانية والتأملات والتعبدات الروحانية ، والسمو الروحانى عن كل ما هو حسى أو ملموس. ونادراً ما نسمع عما يسمى بالطب الفلسفى أو ما أسماه جون غرايش “العلاج بالفلسفة” أو الرياضات الروحية في كتابه الشهير ” العيش بالتفلسف ، التجربة الفلسفية ، الرياضات الروحية ، وعلاجيات النفس” .
فالفلسفة في أي زمان تعد موطن الحكمة ، والتفلسف ، ولا يمكن نفى حقيقة مفاداها أن الفلسفة تتجدد بتجدد الذهن الإنسانى، وقدراته على التفكر والتدبر والعيش بالتفلسف حتى إذا أغفل المرء أنه يتفلسف أو حقيقة الفلسفة فهو يتفلسف بالفعل الذهنى ، والممارسات العقلية للتفكر .
بل إن ممارسة الرياضة الروحية للتفكر والتفلسف تشعر المتفلسف بالسعادة بقدرته على بلوغ الحكمة ، والإبتعاد عن الانفعالات السلبية كالحزن والخوف والألم ، أي أن التفلسف علاج للنفس البشرية وذلك من خلال الحوار مع النفس وتحديد مواطن قوتها وعوامل اخفاقها ، والجوانب التى يتسنى تقويتها بالقراءة والتحليل والنقد المستمرين ، فلا تفكير فلسفى بلا تحليل ونقد وتركيب وإبداع . ولم تكن الفلسفة من أجل عرض مذاهب وأفكار فلاسفة من قديم الزمان ، ولكن وجدت من أجل التفلسف والتفكير في الحياة .
نعم الفلسفة هي فن الحياة كما وصفتها كريستين هلبرينCATHERINE HALPERN في كتابها القيم ” la philosophie un art de vivre” ” الفلسفة فن الحياة “. فالفلسفة لا تدرس وفقاً لمقولات الفلاسفة ومذاهبهم وحسب ، وإنما الفلسفة تمارس في الواقع ، لهذا أكدت كريستين في كتابها أن لدينا في الوقت الحالي معلمين للفلسفة وليس فلاسفة Il y a de nos jours des professeurs de philosophie mais pas de philosophes .
والمقصود بالطب الفلسفى في سياق عملية التفلسف مفاداه أن الفلسفة دواء ،وعلاج للنفس البشرية التي تفتقر إلى التفكير المنطقى والرجاحة العقلية، والتي تتسم بالتبعية الفكرية والانسياق وراء أفكار ومقولات وأغاليط لا منطق لها أو أدلة بل تخضع للسذاجة العقلية ، والتفكير المشوش والمشوه ، والتكاسل الفكرى الذى يجعل الفرد في عرضة دائمة لاستقبال أفكار وتصورات عن الآخرين دون تحليل أو تفكر أو نقد ، ووضع الأفكار في سياقاتها والمواقف التي ارتبطت بها . كل هذا يعالجه الطب الفلسفى بمعنى الحوار العقلانى مع الذهنية البشرية ، وتفنيد المزاعم والتبريرات بالأدلة المنطقية ، والقناعات العقلية ، والدوافع التي قادت الفكر إلى التفكير على نحو ما .
فالطب الفلسفى مضمونه التفلسف بمعنى التساؤل المستمر والبحث عن إجابات للتساؤلات ورفض كل ما لا ليس منطقى ولا يخضع للنقد والتحليل العقلى ، وكل ما يؤخر العقول عن الإنتاج والتنمية . فالتفلسف ليس لتعطيل الإنسان عن الإنتاج والعمل ، بل العمل عن اقتناع وقناعة أكيدة أن ما يفعله سيخدم البشرية ، ويحقق إنجازات مذهلة .
وهذا أساس التحضر والمدنية ، فالحضارة تشيد بالفكر والتفكر والرغبة في التميز ،وإحداث واستحداث إنجازات غير مسبوقة ولا معهودة ولا أبدعها آخرون ، بل هي نسيج الفكر وحده وهذا العقل وحده الذى ابتكر بعد ما تفلسف أى فكر وخطط ووضع تصورات ، وأخضعها للتحليل والنقد وإعادة التركيب ، وأعلن تلك التصورات الذهنية للمناقشات العقلانية الفلسفية ،ممسكاً بكافة الأدلة المنطقية والمبررات العميقة التي تحتم وجود تلك التصورات الإبداعية كحلول لقضايا وأزمات تتعلق بالإنسانية والكون والحياة بأجمعها .
فالطب الفلسفى يداوى مُدعى المعرفة ، ويهزم ححجهم وأباطليهم غير المنطقية ، ويهزم أية مقولات تكرس الكره أو المشروعات الأنوية أو الفردية أو النخبوية التي تنطلق من تصورات تسلطية تخضع لأحادية التفكير، والرغبة في امتلاك الحقيقة ،وكأنها توقفت عند تلك التصورات التي تحكمها سلطة استبدادية لا عقل فيها ،ولا منطق سوى الرغبة في تطويع النفوس البشرية ناصية تحقيق أهداف نخبوية أو سلطوية تخدم مصالح فئات ،وتحرم فئات أخرى من العيش الحقيقى في بيئة يسودها العقل والرياضة الروحية التي ينعم بها ذوى البصيرة الفلسفية الحكيمة.
والوصول لمرتبة التفلسف والحكمة العقلية بحاجة إلى تمرينات عقلية قوية ، والمرور بمواقف حياتية كثيرة وخبرات هائلة ، والصمود العقلى أمام التيارات العقلية المغلوطة ، ومحاولة دحضها بالتفلسف والأدلة والمبررات المنطقية ، فالدواء الفلسفى قد يكون دواءاً للخصوم أيضاً من خلال فلسفة الإقناع ،وثبوت الحجج القوية كما فعل الفلاسفة من قديم الزمان عندما كانوا يدحضون المذاهب الأخرى بالإقناع والمنطق العقلى الذى لا يخلو من الحوار والتفلسف العميق والمبنى على التفكير الناقد والتحليل والتركيب ، والاستنباط العقلى.
وهذا ما يقضى على السذاجة العقلية للمرء ، وقابليته للوقوع فريسة سهلة للاستقطاب الفكرى والأيديولوجى من قبل أفراد آخرين أو جماعات أو مجتمعات بأكملها .
ومن ثم فإن الطب الفلسفى المستند إلى حكمة التفلسف بمثابة حصانة ذهنية من فنون الغواية والاستقطاب وتزييف الوعى والتبعية الفكرية ، والضغوطات النفسية والعقلية ، والحصار العقلى الذى يفرضه أتباع العقول التسلطية والأنوية والنخبوية على الأفراد للإنخراط في تحقيق أهداف خاصة لا تخضع لمنطق العقل.
المصادر
1-غرايش ، جون (2015): العيش بالتفلسف التجربة الفلسفية ، الرياضات الروحية ، وعلاجيات النفس ، ترجمة محمد شوقى الزين ، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث ، التأويليات ، المغرب.
2-فورجاس ، جوزيف ب ، بوميستر ، روى ق (2021) : السذاجة وعلم النفس الاجتماعى ، الأخبار الكاذبة ، نظريات المؤامرة والمعتقدات اللاعقلانية ، ترجمة محمد صلاح السيد ، صفحة سبعة للنشر ، المملكة العربية السعودية .
3-HALPERN, CATHERINE(2017): la philosophie un art de vivre, Sciences Humaines Éditions, Centre français du droit de copie, France.
[email protected]

الدكتورة فاطمة الزهراء سالم محمود
أستاذ أصول التربية
كلية التربية –جامعة عين شمس

ً

قد يعجبك ايضا