طفرة في برامج الذكاء الاصطناعي ولكن هل تواكبها الجودة؟ بقلم الأستاذ الدكتور :دينا عبد الهادي
المرفأ…في السنوات الأخيرة، شهدت الجامعات المصرية توسعًا كبيرًا في إنشاء البرامج الأكاديمية المتخصصة في مجالي علوم الحاسبات والذكاء الاصطناعي، ضمن إطار رؤية مصر 2030 التي تستهدف تعزيز التحول الرقمي وزيادة مساهمة قطاع التكنولوجيا في دعم الاقتصاد الوطني. ومع هذه الطفرة الكمية، يطرح الواقع سؤالًا حيويًا: هل تواكب جودة التعليم هذا التوسع؟ وهل الخريجون مؤهلون فعلًا لمتطلبات سوق العمل المتسارعة والمتغيرة؟
فعلى الرغم من تخرج أكثر من 543,000 طالب سنويًا من الجامعات المصرية، فإن أقل من 2,500 منهم يمتلكون المهارات التقنية المتقدمة المطلوبة في الاقتصاد الرقمي. وتكشف تقارير سوق العمل عن نسبة بطالة بين الشباب تتجاوز 25%، ما يعكس بوضوح فجوة كبيرة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق. كما أظهرت دراسة حديثة من جامعة حلوان أن عددًا كبيرًا من طلاب الحاسبات يفتقرون إلى المهارات الناعمة مثل التفكير النقدي، والعمل الجماعي، والتواصل، وهي عوامل أساسية للنجاح في بيئات العمل التكنولوجية.
تتجلى هذه الفجوة أيضًا في التفاوت بين نوعيات المؤسسات التعليمية. فالجامعات الحكومية، رغم عراقتها، تعاني من كثافة طلابية مرتفعة وضعف التجهيزات العملية، مما يحد من فرص التطبيق العملي. في المقابل، توفر الجامعات الخاصة والأهلية موارد ومناهج محدثة، كما هو الحال في جامعة مصر للمعلوماتية (EUI) التي أبرمت شراكات مع شركات عالمية مثل مايكروسوفت و IBM. ومع ذلك، لا يزال ضبط جودة الخريجين يمثل تحديًا، خاصة في بعض المؤسسات التي تركز على الربحية أكثر من بناء الكفاءات.
على صعيد آخر، لا يمكن إغفال المبادرات الوطنية مثل “المدرسة المصرية للذكاء الاصطناعي” ومبادرتي “مستقبلنا رقمي” و”رواد تكنولوجيا المستقبل”، التي تسعى لتأهيل عشرات الآلاف من الشباب سنويًا في المهارات الرقمية. لكن هذه المبادرات – رغم أهميتها – لا تزال غير كافية وحدها لسد الفجوة الكبيرة بين العرض والطلب في السوق.
ولفهم الطريق الممكن، يمكن النظر إلى تجارب دولية ناجحة. في سنغافورة، على سبيل المثال، تركز الجامعات مثل NUS على تطوير مناهج مرنة ومحدثة بالشراكة مع شركات تقنية كبرى لضمان أن الخريجين يمتلكون المهارات التي يطلبها السوق فعليًا. أما في ألمانيا، فيتم اعتماد “نظام التعليم المزدوج” الذي يدمج التعليم الأكاديمي مع التدريب العملي داخل الشركات، ما يؤدي إلى خريجين جاهزين فورًا للعمل. عربياً، تتقدم السعودية بسرعة من خلال برامج مثل “معسكرات طويق” وأكاديمية “سدايا”، والتي تقدم تدريبًا تقنيًا مكثفًا بالتعاون مع القطاع الخاص، ضمن رؤية المملكة 2030. وتجربة هذه الدول تثبت أن النجاح لا يكمن فقط في توسيع عدد البرامج، بل في التكامل الفعلي بين التعليم وسوق العمل.
لذلك فإن ما تحتاجه مصر الآن لا يتوقف عند إطلاق مزيد من البرامج الأكاديمية، بل يشمل خطوات أكثر عمقًا، أبرزها: تحديث المناهج بشكل سنوي وليس دوري فقط، إشراك القطاع الخاص في تصميم وتقييم البرامج، رفع كفاءة أعضاء هيئة التدريس بمواكبة أحدث المعايير العالمية، ووضع آليات صارمة لتقييم جودة الجامعات الخاصة والأهلية بشفافية.
في الختام، فإن التعليم التكنولوجي في مصر يخطو خطوات واعدة، لكنه لا يزال بحاجة إلى أن يتحول من توسع كمي إلى تحول نوعي. فنحن لا نحتاج فقط إلى خريجين يحملون شهادات، بل إلى كفاءات تبتكر وتنافس وتقود في سوق عالمي يتغير بسرعة. فكما تُظهر التجارب الدولية، الجودة هي الرهان الحقيقي، والمهارة هي رأس المال الجديد.
استاذ الإحصاء. وكيل كليه التجارة للدراسات والبحوث العليا جامعه طنطا