سقراط والسؤال الفلسفى.. بقلم عزيزة صبحى

516

المرفأ….يمثل سقراط لغزاً كبيراً ومتاهة من الصعوبات لدى كثير من الباحثين ، وذلك لأنه –كما هو معروف- لم يكتب شيئاً عن فلسفته وآرائه وحياته، وإنما كل من وصل إلينا عنه كان من خلال الروايات المختلفة التى قدمها للدرس الفلسفى بعض الفلاسفة والمؤرخين ورواد المسرح اليونانى، مثل؛ أفلاطون، إكسينوفون، أرسطو، أريستوفانيس، فضلاً عن روايات سكوستس أمبريقوس وصغار السقراطيين، ولاختلاف الروايات عن سقراط، ظهر ما يُعرف بالمشكلة السقراطية، تلك المشكلة التي لا يمكن أن تُحل إشكاليتها، وذلك لأن هذه الروايات، سواء كانت أدبية أم فلسفية، تنطلق من ذاتية وتأويل مؤلفيها، ومن ثم، فالإمساك بسقراط الحقيقي هو محض وهم. والأجدر، إذن، الحديث عن سقراط الذي نعرفه من خلال كتابات الفلاسفة، سقراط الذي جعله المؤرخون علامةً فارقة في تاريخ الفلسفة اليونانية فصنفوها إلى ما قبله وما بعده، سقراط الذي تحول موته ومحاكمته إلى أسطورة تأثر بها الأدباء والفلاسفة والساسة ودعاة الكلمة الحرة في كل زمان ومكان، ما نتحدث عنه هو سقراط ذلك الرجل الذي جرؤ على السؤال (وفقاً لكورامسين) وربما في هذا السؤال تكمن أهمية سقراط الحقيقية، وتكمن أيضًا معاناته، حيث يقف السؤال السقراطي ولأول مرة في تاريخ الفكر اليونانى في مواجهة قوية وعلنية مع الدوجماطيقيات العتيدة والمقدسة.

​لقد بدأ العقل الغربى سؤاله في فلسفات ماقبل سقراط بالبحث في العالم الخارجي، عالم الأفلاك، بعيدًا عن عالم الذات، وقد أدرك في مسائلته الدؤوبة عن حقيقة الأشياء، زوالها و تغيرها، ومن ثم، بحث عن المادة الأولى التي هي محل لهذا التغير، وتكمن أهمية فلاسفة المدرسة الأيونية في طرح هذا السؤال لا فيما قدموه من إجابات ساذجة عنه، حيث اعتقد طاليس أن الماء هو المبدأ الأول للأشياء، بينما قال انكسمندريس بالأبيرون، وانكسمنس بالهواء. أما هيرقليطس الذي اعتقد فى صيرورة العالم، فإنه قد وضع اللوغوس فيما وراء هذا السيلان الدائم بوصفه القانون الكلي العام للوجود.
​لقد جاءت إجابة الفيثاغورية عن سؤال الوجود وأصله بقولها،؛ ” إن العالم عدد ونغم” مستندة في ذلك إلى قوة اليقين الرياضي، ثم يأتي بارمنيدس ويستخرج من الفكر وحده حقيقة هذا الوجود، مقدمًا في ذلك عدة حجج في نفي الحركة، تناقض الظاهر المحسوس. وما بين سؤال الحركة والسكون، التغير والثبات، ظهرت بعض الفلسفات التي حاولت التوفيق بينهما مثل فلسفة أمبادوقليس وقولها بمبدأي المحبة والكراهية وتبادل سيادتهما على العالم.
​ولقد ظل الطرح الفلسفي في الرد على سؤال الوجود وأصله وطبيعته حائرًا بين المفاهيم الترانسنتدالية حول الوحدة والكثرة، الحركة والثبات، الكون والفساد، المادية والروحية. إلى أن ظهر سقراط (والسوفسطائيون) وأنزل الفلسفة من عليائها إلى الأرض، أي أنه نقل الدرس الفلسفى من الكوسمولوجيا والميتافيزيقا إلى الأنثروبولوجيا، من النظر في الكون الأكبر إلى النظر في الكون الأصغر( الإنسان)، ومن ثم، ركز سقراط على السؤال الأخلاقي منصرفًا عن سؤال الطبيعة والوجود، وهذه هى الصورة التى نقلها لنا عنه إكسينوفون، حيث صور سقراط بأنه ذلك الرجل الذي لم ينشغل بالبحث الميتافيزيقي. ولقد كان سقراط فى هذا نتاجًا لسياق مجتمعي عانى كثيرًا من الانهيار السياسي والثقافي، لذا انصرف إلى البحث في القيم الأخلاقية؛ قيم المساواة ،العدالة، والعيش الجيد.
​إن السؤال الفلسفي هو سؤال ماهوى، يبحث عن الماهية التي تكمن وراء الأعراض الجزئية المحسوسة والمتغيرة ولا سبيل لإدراكها سوى العقل، ولأن المعرفة الحقة هي المعرفة بمفاهيم الأشياء، انطلق سقراط يتساءل عن هذه المفاهيم، رغم إنه لم يصل أبدًا إلى تعريف كلي إيجابي مثمر في كل محاوراته، مما أدى إلى وصف محاوريه له ولجدله بالعقم الفكري، فى حين أن أرسطو قد جعل من هذا السؤال عن الماهية الإسهام الفلسفي لسقراط ((Aristotle: Metaphysic’s, BK (XIII), Ch( IIV) 1978b، أما الوصف الأفلاطونى والإكسينوفونى للبحث السقراطى عن الماهية، فيمكن التماسه فيما قدماه من مؤلفات عن سقراط، فعلى سبيل المثال، نجد سقراط أفلاطون في محاورة “هيبياس الكبرى” Hippias Major التي تدور حول الجمال والتي يسأل فيها سقراط هيبياس السوفسطائي عن ماهية الجمال، فيجيب هيبياس بقوله:” إن الجمال هو العذراء الجميلة”، ويبدأ سقراط في تفنيد هذا الرأي متسائلاً أليست الفرس الجميلة جمالاً، والقيثارة الجميلة جمالاً؟ فينتقل هيبياس إلى تعريف آخر ألا وهو الذهب، فيسأله سقراط هل الذهب يُعد جمالاً على الإطلاق، أم أن الملائم والمناسب هو الجمال ، فقد يكون الخشب أكثر ملائمة من الذهب – كما هى الحال، مثلاً، فى أدوات الطهى- فإذا بهيبياس يقتنع برأي سقراط، ويرى أن الجمال هو المناسب، فيعاود سقراط السؤال مجددًا؛ هل المناسب هو الذي يسبب جمال الأشياء أم الجمال هو الذي يجعلها كذلك، وتدور المحاورة في مجملها عن معان عدة للجمال، كالنافع والمفرح … وينتهي سقراط من خلال بحثه عن ماهية الجمال إلى أن يقر في نهاية المحاورة أن ما هو جميل صعب().
​كذلك يعرض إكسينوفون في “المذكرات” مثالاً للبحث السقراطي عن الماهية، عبارة عن محادثة بين سقراط وأحد مدعي الحكمة حول السؤال عن مفهومي: العدل والظلم، ويفند سقراط إجابات الخصم كلها عن هذين المفهومين؛ كأن يقول، مثلاً، إن كل الأفعال صحيحة بمواجهة الأعداء، جائزة بمواجهة الأصدقاء، إلا أن سقراط يثبت –بالجدل- تناقض هذه المفاهيم().

​يتضح مما سبق، أن سقراط لم يصل ببحثه عن الماهية إلى أية نتيجة تعريفية، لكنه آمن بمقدرة العقل الإنسانى على إدراك الحقيقة الكلية، هذه العقيدة التي أسس عليها أفلاطون –لاحقًا- نظريته عن الحقيقة والظاهر، و المفارقة الإبستمولوجية والوجودية لعالم المثال كمقابل لعالم الظواهر.
​أما عن المنهج الذي قدمه سقراط من خلال بحثه الفلسفي فهو منهج التهكم والتوليد، ولا يعني التهكم هنا بطبيعة الحال السخرية، وإنما طرح الأسئلة مع تصنع الجهل، كمراوغة لجذب مدعي المعرفة وفضح ادعائهم، يبدأ سقراط، إذن، بإعلانه أنه يعرف أنه لا يعرف شيئًا، لكنه يؤمن بإمكانية توليد المعرفة عن طريق السؤال، ذلك التوليد الذي يشبه فيه- على حد قوله- عمل أمه، لكنه يولد الأفكار من عقول الرجال. كذلك وفي سبيل البحث عن التعريف الكلي والمفاهيم الأخلاقية، استند سقراط إلى الاستقراء، مستعينًا في هذا بمجموعة من الحالات التي يمكن ملاحظتها في الحياة حتى نصل إلى تعريف كلي، ولم يكن الاستقراء السقراطي بطبيعة الحال، بحث في العلاقات السببية، وإنما بحث عن المفاهيم الأخلاقية.
​ولقد أثار هذا المنهج السقراطي استياء معاصريه ومحدثيه الذين يعتبرونه نوعًا من الهزل والمراوغات، وذلك لأنه يقوم على أسئلة وأمثلة مستفزة يضرب بها سقراط عمق موروثاتهم ومفاهيمهم. فلقد بحث سقراط في العديد من المفاهيم الأخلاقية ما العدالة (يوثيفرون)، ما الجمال (هيبياس الكبرى) ما الشجاعة (لاخيس)، … إلى آخره.
​ولقد ظل السؤال السقراطي حائرًا بلا إجابة، حيث انتهت محاوراته إقرارًا بعجزه والمحاورين عن تحديد غاية البحث.
​ورغم خصوصية هذا المنهج السقراطي، فلم تنتهِ صلاحيته مع سقراط، وإنما ظل حاضرًا في طريقة تفكيرنا، وفي حياتنا المعاصرة، فعلى سبيل المثال، استخدم هذا المنهج في العلاج بالفلسفة، وهو ما نصت عليه الرابطة الأمريكية للفلسفة والاستشارة والعلاج النفسي (ASPCP)، في مقدمة معايير الممارسة الأخلاقية الخاصة بها، حيث ذكرت أن تقديم العون الفلسفي للآخرين قديم قدم سقراط الذي قام في القرن الخامس ق.م بهذه الممارسة.
​أما عن كيفية مقاربة هذا المنهج في الاستشارة الفلسفية فيأخذ صور عدة منها أن يسأل المستشار الفلسفي راغب المشورة عدة أسئلة، ولا يقوده إلى أية استنتاجات، هذه المقاربة قد تساعد في أن يكتسب الإنسان موقفًا تأمليًا انعكاسيًا تجاه مشكلاته، وهذا هو الإجراء الذي يتخذه مؤسسوا منهج التوليد الفلسفي، وقد يكون المستشار الفلسفي محفزًا في حوار متبادل عن طريق الأسئلة والتعليقات النقدية حتى يحفز راغب المشورة على النظر في حلول مختلفة وفحص مواقفه من وجهات نظر الآخرين، ومن ثم يخلق حوارًا مفتوحًا، يكون فيه المسار الفعلي للتفكير أهم من أي نتيجة يراد الوصول إليها(). وهذا هو لب غاية المنهج السقراطي.
التفلسف السقراطي وسؤال عرافة دلفي: أكد كل من أفلاطون وإكسينوفون أن “شيريفون” وهو أكبر أتباع سقراط قد سأل عرافة دلفي، ذلك السؤال المعروف عما إذا كان هناك من هو أحكم من سقراط، وأجابته على هذا السؤال بالنفي. ولكن هل كان سؤال عرافة دلفي سببًا في السؤال السقراطي المستمر، أى هل يعود تفلسف سقراط إلى تلك النبوءة؟ لقد آمن سقراط بصدق النبوءة وذلك لأنها نابعة من الآلهة، ولقد سأل سقراط نفسه ما الذي يميزه عن باقي الأثينيين، واكتشف المعنى المستتر للنبوءة، حيث أدرك أن التمييز بينه وبين الأثينيين لا يكمن في أفكاره الفلسفية فحسب، بل في السؤال الذي يختبر به تلك الأفكار، ذلك السؤال الذي كان سببًا لعداء كثيرين له.
​والحقيقة أن تفلسف سقراط وإخضاع كل شيء للسؤال لم يأت نتاجًا لسؤال شيريفون للعرافة، لأن سقراط قد مارس هذا السؤال قبل ذلك بكثير، لكن بعد إجابة العرافة اكتسب السؤال السقراطي معنى مقدس، حيث تصور أن الإله هو من أمره بالبحث الفلسفي، وعادة ما كان يقول إن سؤاله الدائم لمدعي الحكمة هو من أجل الإله.
هل كان السؤال سببًا في محاكمة سقراط والحكم بإعدامه؟ هل يمكن أن تحاكم أثينا فيلسوفًا لكونه سئالاً؟
​اختلفت الآراء حول الأسباب الرئيسة لتقديم سقراط للمحاكمة، فعلى سبيل المثال، يذكر أفلاطون في “الدفاع”، وإكسينوفون” في “المذكرات” و”الدفاع” أن أسبابًا دينية كانت وراء تقديم سقراط للمحاكمة وذلك بإنكاره لآلهة الدولة وتنصيب آلهة جديدة وإفساد عقول الشباب –التهم المعروفة التي وجهها إليه متهموه- وهناك من يرجع أسباب محاكمة سقراط إلى موقفه السياسي، حيث إنه لم ينحاز لأحد النظامين المتنازعين في أثينا وقتئذ –الأوليجاركي والديمقراطي- وفضل عليهما حكم الإنسان الذي يعرف، وربما رأى البعض في هذا ردة إلى الحكم المطلق، البعض الآخر يرى في هجوم أريستوفانيس وسخريته من شخص سقراط، والصورة الهزلية التي قدمها عنه في مسرحياته سببًا في بغض الأثينيين له ونحن نعلم جميعًا مدى تأثير الفنون على العقول وجاذبيتها للقلوب.
​وربما كانت الأسباب السابقة سببًا في تقديم سقراط للمحاكمة، لكنها لم تكن السبب الرئيس، أرى أن السبب الرئيس في هذا هو السؤال السقراطي الذي استفز الخواص والعوام على حد سواء؛ الخواص لأنه فضح معرفتهم الزائفة وسبب لهم حرجًا أمام مريديهم وشوه صورتهم المعتبرة بوصفهم العارفين، والعوام لأنهم قد رأوا سقراط ينال من كل الثوابت الموروثة، ومن مساحة الأمان الفكري القابعين بها ووضعهم في مواجهة كاشفة لجهلهم، وشككهم فيما يعلمون أو فيما تصوروا زيفًا أنهم يعلمون.
​وإذا كان السؤال الفلسفي هو القالب الاستفهامي الذي تصاغ بداخله المشكلة الفلسفية، كمشكلة كلية مجردة، فإن السؤال السقراطي رغم بحثه عن الإجابة داخل الكلي والعام، فإن سقراط قد جعله متحققًا في أشخاص بعينها، بمعنى أنه إذا أراد سقراط أن يمضي في السؤال عن ماهية شيء ما، فإنه يتجه إلى متخصصيها أو حكمائها أو معلميها ومن ثم، فالسؤال السقراطي قد أثار حقن هؤلاء جميعًا، وكان من البديهي أن ينقموا على سقراط، ويسعوا إلى التخلص منه لأنه الكاشف لضعفهم وإدعاءاتهم.

وجملة القول؛ يظل السؤال السقراطى حاضراً، ليس فقط فيما أثاره من إشكاليات فلسفية، لكن بوصفه انفتاحًا عقليًا ضد الدوجماطيقية، يسعى فى محاولة دؤوبة ومستمرة للوصول إلى الحقيقة، وذلك من خلال معاودة البحث اللانهائى عنها.

أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية

قد يعجبك ايضا