الدكتور أحمد الهنداوي يرثي والده ،،ذوقان،،بمقال بذكرى الرحيل ال٢٠ لن نهادن بالحق ولن نبيع المبادئ

588
المرفأ…أقف أمامك اليوم أبي، أستاذي، وقدوتي… بعد عشرين عاماً من رحيلك، وفي القلب غصة والصوت جشة… والصدر والقلب يعترهما ضيق وألم… والوجدان يفيض حنينا واشتياقا… كما كانت في اليوم الأول لفراقك…
أخاطبك اليوم … لا بلساني… لا بقلمي… بل بقلبي، بذاكرتي، بروحي ومشاعري… والتي ما زالت تتلمّس حضورك في كل يوم وزاوية ومفصل من حياتي….
كيف أنسى رجلاً لم يكن لنا مجرد أب، بل كان لنا المعلم، والمثل الأعلى، والقدوة في كل شيء… كنت لنا وللناس أجمعين ذلك الأردني العروبي الهاشمي الولاء والانتماء، المترفع عن الزيف، المتواضع رغم المناصب، الثابت رغم العواصف، القوي رغم رقة الشعور ورهف الوجدان… كنت رجل الدولة الذي ما بدّل يوماً، رجل الدستور والحق، رجل الإخلاص والوفاء والانتماء… رجل المواقف التي لا تُشترى ولا تُساوَم…
أتذكرك اليوم، وأسترجع ملامح محياك الوضاء حين كنت تحدثنا عن معنى الوطنية، لا من كتب، بل من قلبٍ كان ينبض بها. كنت تردد أمامنا أن الوطن لا يُخدَم بالشعارات، بل بالعمل الصامت، بالموقف الصادق، وبأن يعيش الإنسان للناس، لا لنفسه فقط…. قلت لنا إن الراحة والسعادة الحقيقية ليست في الثراء ولا في الجاه أو المنصب، بل تكمن في راحة الضمير… وأن الكرامة أثمن من كل منصب… والشرف لا يُصنع إلا بالتجرد والصدق…
أبا محمد… ما زالت كلماتك تسكنني وتوقظ فيّ كل يوم إحساساً بالمسؤولية، كلما تعبت وتثاقل الحمل، تذكرت قولك: “اصبروا، فإن نار الحق لا تلبث أن تتحول نسيمَ طمأنينة إذا ما صبر صاحبها”. كنت تردّد أن طريق الاستقامة صعب وطويل وشاق، لكن السكينة لا يعرفها إلا من سلكه، وكنت تقول لنا: “الواجب يجب أن يُؤدى لأنّه واجب، لا طلباً لصيت، ولا سعياً وراء منصب، ولا رغبة في مجد زائل، بل لأن خدمة الناس حق، والعمل من أجلهم عبادة”.
لا زلت أسمعك تنصحنا بألا نُغري بزخارف الدنيا، وألا يغرّنا المديح، ولا يرهبنا الوعيد، فالرجل الحقيقي لا يعرف نفاقاً ولا رياء، ولا يبيع ضميره في سوق المصالح. كنت تردد أن الوطنية الصادقة لا تصرخ، بل تعمل بصمت، تبني بهدوء دون ضجيج، وتُخلص دون انتظارٍ لثناء…
والدي الحبيب، إن ما نعيشه من فقدك لا يُعبّر عنه بكاء ولا يُطفئه حزن. ولكن عزاؤنا أنك زرعت فينا قيماً لا تموت… علّمتنا كيف يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، شجاعاً في رأيه، مخلصاً لوطنه، وفياً للعرش الذي أحببته وأخلصت له… منكَ تعلمنا أن العروبة ليست شعاراً، بل انتماء حيٌّ نابضٌ لا يتعارض مع حب الوطن، بل يتكامل معه، كما كنت تقول دائماً: “من قال إن حب الأردن ينفي حبّ فلسطين؟ من قال إن الانتماء لتراب الوطن يناقض الإيمان بأمة واحدة؟”…

واليوم، بعد عشرين عاماً على غيابك، ما زالت مآثرك شاهدة، نبراسا ينير لنا الطريق… وما زال الناس يذكرونك… رئيس الديوان الملكي ونائب رئيس الوزراء والوزير الأطول خدمة… ولكن قبل كل شيء يذكرونك رجل الدولة الإنسان الذي عاش طوال حياته معلّماً أستاذا مستقيما نزيها، والقائد الذي عاش خادماً لوطنه ومليكه وشعبه، والمفكّر الذي عاش بسيطاً في تصرفاته وتواضعه، عظيماً في شخصه ومضمونه…. يذكرونك ويذكرون خصالك ومناقبك ويترحمون عليك… بعد عقود من وفاتك.. حتى من لم يحظ منهم بشرف لقائك أو التعرف عليك بشكل مباشر… فقط استناد لما سمعوه عنك… من آبائهم وأقاربهم ومعارفهم… فكيف يكون ذلك؟!… والجواب سهل ممتنع… من أحبه الله، أحب الناس فيه… وأحسن وأخلد ذكراه… وهذا هو الفوز العظيم…
كنت تؤكد لنا دوما بأن الطريق إلى الناس يبدأ من محبة الله، ثم من العمل لأجلهم… وها أنا أقف الآن، في هذه الذكرى، أعدك أن نكون كما أردت لنا: مستقيمين، ناصحين، ثابتين، لا نُهادن في الحق، ولا نبيع مبادئك التي صنتها طوال حياتك…
لقد عشت من أجلنا، وعشت من أجل وطنك وقائدك وشعبك، وعشت من أجل أمتك، فكنت أمةً في رجل… علمتنا أن عزّ الإنسان في مبادئه، وأن الكرامة تُصان بالصبر والصدق، لا بالهتاف والمظاهر، وأن من خدم الناس خدم الله…
في ذكرى رحيلك العشرين، أعدك يا أبي أننا منصاعون لوصيتك. نرعاها كما يُرعى العهد المقدس، ونجعلها نجمنا في دروب الحياة، مهما اشتدّت الصعاب أو تعثّرت الخطى… لن تبهت ذكراك، ولن تذبل قِيمُك، ما دام فينا نفسٌ وفيٌّ، وما دام في هذا الوطن رجال يؤمنون كما آمنت أن الخير لا يُبنى إلا بالتربية، وأن التربية لا تقوم إلا على الحق، وأن الحق لا يُصان إلا بالرجال الأوفياء، وأن هؤلاء باقون في هذه الأمة إلى يوم الدين…
رحمك الله أبي، رحمةً تليق برحمتك بنا… وأسكنك فسيح جناته، كما وسعتنا عيناك حناناً ورفقاً وتوجيهاً… سنبقى نحدّث أبناءنا وأحفادنا عنك، كما حدّثتنا عن أباك وجدك وأهلك ومبادئك. وسنبقى، ما حيينا، نسير على الدرب الذي سلكته، لا نحيد عنه ولا نغادره، وفاءً لك، ووفاءً للأردن الذي أحببت، ووفاءً لأمةٍ لم تتخلَّ عنها حتى في أشدّ أيامها…
رحمك الله أستاذنا وجعل مقامك الفردوس الأعلى، وجعلنا لك صدقةً جارية، ودعوةً لا تنقطع…

سلام عليك أبتِاه يوم وُلدت، ويوم رحلت، ويوم تبعث، ونُبعث على وصاياك، حيا…
إبنك المحب
#الدكتور_أحمد_ذوقان_الهنداوي

قد يعجبك ايضا