جلد الذات… بقلم الدكتورة إيمان فوزي

1٬026

المرفأ…حين يصبح الشعور بالذنب إدمانًا
كيف يحوّل الضمير المرهق حياتنا إلى سجن داخلي؟
القانون لا يعفي أحدًا من تبعات أفعاله، سواء ارتكب الخطأ عن قصد أو وقع فيه بحسن نية أو عن طريق إهمال غير مقصود. صحيح أن العقوبة تختلف في شدتها، فمن يخطط للجريمة عمدًا يلقى أشد العقاب، بينما من يخطئ بغير قصد يلقى حكمًا أخف، لكن في النهاية يظل هناك حساب. فالقانون يفرّق في درجة العقوبة، لكنه لا يلغيها، وهذا يؤكد أن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي لتبرئة الإنسان من نتائج أفعاله.
وإذا كان هذا حال القانون، فكيف يكون حال محكمة الضمير؟ هنا نجد أنفسنا أمام محاكمة أشد وقعًا وأطول أثرًا. فهناك من يعيشون أسرى لصوت داخلي لا يهدأ، يجلدهم ليلًا ونهارًا على كل ما فعلوه، بل حتى على ما لم يقصدوه أصلًا. ومع تكرار هذا الإحساس، يتحول جلد الذات من موقف عابر إلى عادة تستنزف الروح، وتضعف العزيمة، وتحوّل الحياة إلى سجن داخلي مغلق.
قد يتسبب الإنسان في أذى بكلمة عابرة، أو بتصرف طائش لم يقصد به ضررًا. هنا ينهض الضمير، لكن بدل أن يكون مرشدًا للتصحيح والتعلم، يتحوّل عند البعض إلى قاضٍ قاسٍ لا يعرف الرحمة. فيدور صاحبه في حلقة مفرغة من الذنب، يتراجع عن خطواته، ويخسر شجاعته، ويظل مثقلًا بشعور دائم بالعجز والتقصير.
وهناك من يظن أن كثرة جلد الذات دليل على ضمير حي، لكن الحقيقة أن الإفراط فيه يقود إلى نتائج عكسية تمامًا. فالأم التي تلازمها مشاعر الذنب ليل نهار قد تجد نفسها تميل إلى تدليل أبنائها بلا حدود لتعويض ذلك الإحساس، أو على العكس تنزلق إلى دائرة اكتئاب تجعلها عاجزة عن رعايتهم، فتقصّر في حقهم وحق نفسها معًا. وفي كلتا الحالتين، يختلّ التوازن وتضيع الرسالة الأصلية للأمومة.
وهذا ينطبق على أي إنسان يحمّل نفسه الذنب في كل كبيرة وصغيرة؛ فهو في النهاية يصبح أقل عطاءً، وأقل قدرة على القيام بدوره الطبيعي، لأن طاقته الداخلية تُستنزف في الصراع مع ذاته بدل أن تتوجه إلى تحسين واقعه. إن جلد الذات المستمر لا يطوّر صاحبه ولا يصلح من أخطائه، بل يشلّه ويحبسه داخل دائرة مغلقة، فلا يعود قادرًا على التقدم خطوة واحدة. ولهذا فإننا لا نستطيع أن نصف هذا النوع من الضمير بأنه حيّ أو رائع، لأنه في النهاية مضر ومهلك. فكل شيء إذا تجاوز حدّه انقلب إلى ضدّه، حتى الضمير نفسه.
الحقيقة أن الضمير لم يُخلق ليحطم صاحبه، وإنما ليهذّبه ويقوّمه. المطلوب أن نتعلم من خطايانا وننمّي وعينا وخبراتنا، وأن نتعامل مع الضمير كبوصلة تعيننا لا كسوط يجلدنا. فالإفراط في جلد الذات لا يصنع إنسانًا أفضل، بل يصنع إنسانًا مريضًا.
الرحمة بالنفس ليست ضعفًا ولا تهاونًا، بل هي جوهر النضج. ومن يملك شجاعة أن يريح نفسه من قيود جلد الذات، ويهدّئ ضميره المرهق، يصبح قادرًا على أن يحيا بسلام داخلي، بعيدًا عن أسر الشعور المزمن بالذنب، ليذوق طمأنينة الحياة كما ينبغي أن تُعاش.

كليه الاداب جامعة المنصورة

 

قد يعجبك ايضا