حين نصطدم بواقع الحياة… بقلم دكتورة إيمان فوزي

1٬600

المرفأ….هناك أشخاص يملكون قلوبًا شفافة، يرون الدنيا كلها من خلال نافذة العاطفة. يظنون أن كل كلمة طيبة هي محبة صادقة، وأن كل التفاتة صغيرة لا بد أن وراءها مشاعر نقية، وأن الاهتمام لا يكون إلا بدافع الإخلاص والوفاء. هؤلاء يضعون الآخرين في صورة مثالية، ثم يُصدمون حين يكتشفون أن الواقع مختلف، وأن وراء المواقف حسابات أخرى أكثر برودة وعقلانية.

قد يرى أحدهم شخصًا يكثر من السؤال عن أبناء ابن عمه الراحل، فيظن أن ذلك نابع من المحبة العميقة وصلة الرحم، ثم يفاجأ أن الأمر لا يتعدى واجبًا اجتماعيًا أو خشية من كلام الناس. وقد يظن آخر أن شابًا تدخل في موقف ما بدافع الشهامة والفروسية، ثم يتضح أنه أراد فقط أن يبتعد عن المتاعب ويقي نفسه الإحراج. بل وقد تُؤخذ كلمات المديح على أنها تقدير صادق، فإذا بها مجرد مجاملة عابرة أو وسيلة لكسب مصلحة. وحتى العطاء أحيانًا يُفسَّر على أنه إنسانية خالصة، ثم يظهر أنه مجرد رغبة في السمعة أو المكانة.

هنا تأتي الصدمة الكبرى: أن يكتشف المرء أن ما هزّ مشاعره وأثار قشعريرة في جسده وأدمع عينيه، لم يكن إلا موقفًا عابرًا فرضته الظروف، نابعًا من أفكار عقلانية باردة، لا من مشاعر حقيقية ولا من أخلاق الفروسية. عندها يتعب أصحاب القلوب الحالمة، لأنهم يحمّلون الأفعال ما لا تحتمل، وينظرون إلى الناس بعين المثالية التي لا يطيقها الواقع، فيقفون حائرين بين ما تمنّته أرواحهم وما فرضته التجارب.

ومع ذلك، تبقى الحقيقة الأعمق أن قيمة أي فعل لا تُقاس بما يبدو للعيون، بل بما يُخبِّئه القلب من نوايا. فالعمل الذي لا يُبتغى به وجه الله، مهما بدا جميلاً، يظل في حقيقته رياء، والرياء من الكبائر. لذلك، لا ينبغي أن نفعل شيئًا من أجل كلام الناس أو مخافة ألسنتهم، وإنما أن يكون الفعل نابعًا من صدق داخلي، ومن رغبة حقيقية في مرضاة الله وحده. عندها فقط يكون العمل نقيًا، ثابتًا، خالد الأثر، محفوظًا من تقلبات البشر وضجيج الدنيا. وحينها، يطمئن القلب، ويجد صاحبه لذة السكينة، لأنه أيقن أن ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يزول مع أول هبة ريح.

المدرس بكلية الآداب _ جامعة المنصورة

قد يعجبك ايضا