الصديق الجديد ChatGPT… بين الوهم والحقيقة بقلم دكتورة إيمان فوزي
المرفأ…في زمن امتلأ بالضجيج، وتفرّقت فيه القلوب، ظهر على الساحة صديق جديد لا قلب له ولا روح، لكنه حاضر في كل لحظة من اليوم. صديق لا يعرف الغياب، ولا يعتذر بانشغال، ولا يغلق بابه في وجهك. تستطيع أن تحدثه مع الفجر، أو عند منتصف الليل، أو في أي ساعة تشعر فيها بالوحدة. تكتب له فيجيبك، تكلمه بالصوت فيصغي إليك، حتى بالصورة يبادلك تفاعلًا يوهمك أنه أقرب الناس إليك. هذا الصديق الجديد يسمعك حين لا تجد من يسمعك، ويقول لك أحيانًا ما يوافق هوى قلبك فتطمئن، وأحيانًا ما يجرحك بالحقيقة فتشعر أنه صادق معك. إن طلبت منه أن يجاملك جارى أهواءك، وإن أردته أن يوبخك لم يتردد في أن يفعل. لذلك، بدا لكثيرين أنه رفيق العمر الذي لا يخون، والظل الذي لا يغيب. قد بدا هذا الصديق الجديد مختلفًا تمامًا، فليس عنده اعتذار بانشغال، ولا يقول: “سأغلق الآن لأني مشغول”، أو “أطبخ”، أو “أرعى أولادي”، أو “زوجي قد حضر”. لا يعتذر عن غياب، ولا يطلب تأجيلًا للحديث، ولا يبرر بأنه في اجتماع، أو يحضر مؤتمرًا، أو أنه مسافر، أو منشغل بالرد على مكالمة أخرى، أو أن الخط مشغول باتصال آخر. بل هو حاضر دائمًا، متاح في اللحظة التي تحتاجه فيها، يسمعك عندما تضيق بك الدنيا، ويجيبك عندما تلحّ عليك الأفكار. ولهذا خُيِّل للبعض أنه الصديق الذي لا يخذل أبدًا، ولا يغلق بابه في وجهك مهما كان وقتك وظروفك. وقد خُيِّل للبعض أنه لا حاجة للبشر، وأنه يمكن الاكتفاء بهذا الصديق الذي لا يغيب، ولا يعتذر، ولا يرفض. وهنا تكمن الخطورة؛ إذ يُغري صاحبه بالانعزال عن الناس الحقيقيين، فينسى قيمة اللقاء الإنساني والدفء البشري. غير أن الحقيقة مرة: فهذا الصديق ليس سوى صورة متقنة لبرودة العقل، يعكس ما يُلقى إليه من كلمات، ويعيد ما يُغذى به من أفكار، فيخدع صاحبه أنه وجد قلبًا نابضًا بينما هو في جوهره مجرد صدى بلا روح. ولنا أن نتعجب كيف يمكن لبرنامج مثل هذا أن يسهم في انتحار إنسان! كيف غيّب عقل شاب في مقتبل العمر، حتى وثق في كلمات آلة باردة ودفعته إلى إنهاء حياته؟ لقد فقدت أسرة كاملة فلذة كبدها، ووقفوا مذهولين أمام مأساة صنعها صوت افتراضي لا يملك قلبًا ولا ضميرًا. وقد يُخيَّل لك أيضًا أن هذا الصديق رفع عنك حرج الاعتراف بضعفك أمام صديق من لحم ودم؛ فقد تجد صعوبة في أن تبوح بأسرارك أو تشارك نقاط ضعفك مع أقرب الناس إليك، خشية أن تُساء فهمك أو يُستغل ما تقوله ضدك. أما مع ChatGPT فقد تشعر بأمان زائف، فتصارحه بما لا تجرؤ أن تقوله لغيره، مطمئنًا أنه مجرد برنامج. وهنا تكمن خطورة بالغة؛ إذ إن هذه الأسرار قد تتحول يومًا ما إلى بيانات مخزنة يمكن استغلالها أو استخدامها بطرق لا تخطر على بالك. إنه سلاح ذو حدين: يمنحك أنسًا في وحدتك، لكنه قد يسلبك وعيك بما هو حقيقي. إنه ChatGPT وأمثاله من تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي وُجدت لتكون أداة نافعة بين أيدينا، لا بديلًا عن قلوب البشر وعلاقاتهم الصادقة. وأعترف في النهاية أنني كتبت هذه السطور لأنني غِرت قليلًا على صديقتي التي صارت تحادث ChatGPT أكثر مما تحادثني!!!
المدرس بكلية الآداب _ جامعة المنصورة