حين يجوع القلب قبل الجسد” بقلم: د. أسماء نوار
المرفأ…في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتزاحم فيه الضغوط النفسية والتحديات الاقتصادية، أصبحنا لا نأكل فقط لنعيش، بل نأكل لنُسكت قلقنا، ونُخدّر حزننا، ونواسي أنفسنا في لحظات العجز والتوتر. هذه الظاهرة تُعرف علميًا بـ”الجوع العاطفي” – وهو أحد أبرز التحديات الصامتة التي تواجه الصحة الجسدية والنفسية على حد سواء.
الجوع العاطفي: ما هو؟
بعكس الجوع الفسيولوجي الذي يُحفّزه نقص الطاقة في الجسم، يظهر الجوع العاطفي استجابةً لمشاعر غير مريحة كالحزن، القلق، الوحدة، أو حتى الملل. في هذه الحالة، لا يبحث الإنسان عن الطعام لإشباع الجسد، بل لإشباع عاطفة أو سد فراغ نفسي، وغالبًا ما يتجه لاستهلاك أطعمة عالية السكر والدهون كمصدر سريع للراحة.
لماذا يحدث؟
عندما نتعرض للضغط النفسي، يفرز الجسم هرمون الكورتيزول الذي يرفع الشهية ويزيد من الرغبة في تناول الأطعمة المريحة (Comfort Food). هذا التفاعل العصبي-الهرموني هو محاولة من الدماغ للتهدئة، لكنه يصبح سلوكًا متكررًا، قد يسبب مع الوقت زيادة في الوزن، اضطرابات في الجهاز الهضمي، ضعف المناعة، وتدهور الصحة النفسية.
المناعة تحت الحصار
الضغوط المزمنة لا تترك أثرها فقط على العادات الغذائية، بل تؤثر بشكل مباشر على جهاز المناعة. فالإجهاد المستمر يُضعف من كفاءة الخلايا المناعية ويزيد من احتمالية الإصابة بالعدوى والأمراض الالتهابية. وقد أثبتت الدراسات أن الأشخاص الذين يعيشون تحت ضغط نفسي دائم يكونون أكثر عرضة لنزلات البرد، التهابات الأمعاء، وحتى أمراض المناعة الذاتية.
الترندات… تغذية أم تسويق؟
وفي خضم هذه الفوضى النفسية، يجد كثيرون أنفسهم ينجرفون وراء الترندات الغذائية على مواقع التواصل – من “الديتوكس” إلى “الصيام الجاف”، دون فهم حقيقي لاحتياجات أجسامهم. هذه الأنظمة، وإن بدت براقة، قد تزيد من الإجهاد الداخلي إذا لم تكن مبنية على تقييم فردي دقيق وتحت إشراف مختصين.
التغذية الواعية هي الحل
ما نحتاجه اليوم هو العودة إلى الجذور: أن نأكل حين نجوع فعلًا، لا حين نشعر بالضيق. أن نمنح أجسادنا ما تحتاجه، لا ما تُروّج له التطبيقات وصفحات المؤثرين. وأن نُعيد بناء العلاقة مع الطعام كوسيلة تغذية، لا كمهرب نفسي.
توازن العقل والجسم
التغذية العلاجية لا تكتمل دون دعم نفسي. ولهذا، أنصح كل من يشعر بأن الطعام أصبح وسيلته الوحيدة للتعامل مع الضغوط، أن يتوقف لحظة… ويتأمل:
هل أنا جائع؟ أم فقط مرهق؟ حزين؟ أو بحاجة لاحتواء؟
الإجابة الصادقة على هذا السؤال قد تكون أول خطوة نحو الشفاء.
ختامًا
الجوع العاطفي ليس ضعفًا، بل استجابة إنسانية تحتاج لفهم وتعامل واعٍ. والتغذية السليمة لا تبدأ من الطبق… بل من العقل والقلب.
كلما فهمنا أنفسنا أكثر، استطعنا أن نُطعم أجسادنا بما تحتاج، لا بما تهوى.
أخصائي التغذية العلاجية وتغذية اللاعبين