الجينوم والمواهب: كيف يكشف العلم ما تخفيه القدرات الفطرية؟” بقلم: د. هدى فريد

2٬578

المرفأ…في السنوات الأخيرة، شهدنا تطورًا علميًا مذهلًا في علم الجينوم – ذاك العلم الذي يدرس الجينات البشرية وخرائطها الوراثية بدقة متناهية. وبينما ارتبطت تطبيقات الجينوم في الوعي العام بالأمراض الوراثية وتشخيصها، بدأ مؤخّرًا يتّسع النقاش العلمي والتطبيقي حول أبعاد جديدة أكثر إثارة، مثل اكتشاف المواهب الفطرية من خلال الشيفرة الوراثية.
فهل يمكن للحمض النووي أن يخبرنا بمن سيكون عازف بيانو موهوب؟ أو رياضي أولمبي؟ أو عبقريًا في الرياضيات؟ هذا هو السؤال الذي يقف على أعتابه اليوم علم الجينوم التطبيقي.
الجينوم كمفتاح مبكر لاكتشاف القدرات
تحديد الجينات المرتبطة بالذكاء، والمهارات الحركية، والقدرة على التحمل، وسرعة التعلم، وغيرها من السمات المرتبطة بالموهبة، أصبح ممكنًا بفضل التطورات في تقنيات التسلسل الجيني وتحليل البيانات الضخمة. فهناك اليوم قواعد بيانات ضخمة تربط بين أنماط وراثية محددة وسلوكيات أو قدرات معينة.
الأمر لا يعني بالطبع وجود “جين للموسيقى” أو “جين للعبقرية”، فالأمر أكثر تعقيدًا وتراكبًا. لكن يمكن القول إن بعض المتغيرات الجينية تسهم في تشكيل بيئة بيولوجية أكثر استعدادًا لاستقبال وتنمية موهبة معينة.
على سبيل المثال، كشفت دراسات أن بعض الجينات ترتبط بسرعة تكوّن الوصلات العصبية، أو بكفاءة نقل الإشارات في الدماغ، وهي عوامل تؤثر في سرعة التعلم أو الابتكار أو التركيز. في عالم الرياضة، جينات مثل ACTN3 أصبحت محل بحث لفهم ارتباطها بالأداء البدني واللياقة والتحمل العضلي.
هل نحن أمام ثورة في التربية والتعليم؟
إذا تمكنا من تحليل الجينوم للأطفال في سن مبكرة – بشكل آمن وأخلاقي – فقد نكون قادرين على تصميم برامج تعليمية فردية تعزز من نقاط القوة الجينية لكل طفل، مما يفتح الباب أمام مفهوم “التعليم الجيني الموجّه”.
تخيل لو أن المدارس استطاعت أن توجه الأطفال نحو مجالات يتمتعون فيها بتفوق بيولوجي فطري، بدلاً من الاعتماد فقط على الملاحظة أو الأداء الأكاديمي العابر.
لكن هذا التوجه، رغم جاذبيته، يطرح أيضًا تحديات أخلاقية كبيرة، على رأسها خطر تصنيف الأفراد بناءً على جيناتهم، أو خلق فجوات جديدة في المساواة داخل المجتمعات.
ليست الجينات قدرًا حتميًا
من المهم هنا أن نُعيد التأكيد على حقيقة علمية مركزية: البيئة لا تقل أهمية عن الجينات. فالموهبة ليست نتاج الجينوم وحده، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين الوراثة والتربية والتعليم والتجربة.
فقد يمتلك شخصٌ ما استعدادًا وراثيًا لموهبة موسيقية، لكن إذا لم تُكتشف هذه الموهبة مبكرًا أو تُنمّى، فإنها قد تبقى كامنة مدى الحياة.
وهنا تبرز مسؤولية المؤسسات التعليمية، والأسر، والمجتمعات، في رعاية الموهبة بجوانبها المتعددة – وراثية كانت أو مكتسبة.
بين الطموح العلمي والضوابط الأخلاقية
الطريق نحو استخدام الجينوم في اكتشاف المواهب ما زال في بدايته، ويتطلب سنوات من البحث والتجربة والضبط التنظيمي والأخلاقي. لكن من المؤكد أن هذا المسار يفتح أفقًا جديدًا في فهم الإنسان وتوجيه قدراته، بشكل قد يغيّر مستقبل التعليم والعمل والتطور الإنساني بأسره.
علينا أن نتعامل مع هذا التقدم العلمي بعين الباحث لا بعقلية التاجر، وأن نضمن أن يتم استخدام هذه الأدوات لتكافؤ الفرص لا لتعميق الفجوات.
في الختام، يمكن القول إن الجينوم لا يكشف فقط عن الأمراض المحتملة، بل قد يصبح في المستقبل أداة دقيقة لفهم مكامن القوة الكامنة في كل طفل. وإذا ما أُحسن استخدام هذا العلم، فقد نكون أمام جيل تُكتشف مواهبه قبل أن تُهدر، وتُنمّى قدراته قبل أن تذبل. وبين الجين والبيئة، يبقى الإنسان هو من يصنع مستقبله، حين تتكامل العلوم مع العدالة والرؤية.

قد يعجبك ايضا