الأوطان تُبنى بالعقول لا بالحجارة” بقلم: د. هدى فريد
المرفأ…في عالم تتسارع فيه التغيرات، وتتبدل فيه ملامح القوى بين الدول، يظل التعليم هو السلاح الأهم والأقوى، بل هو حجر الأساس الذي تُبنى عليه حضارات، وتنهض به أمم، وتتشكل من خلاله هوية الإنسان وكرامته.
إن الإنسان المتعلم ليس مجرد فرد يمتلك شهادة أو مهارة، بل هو طاقة إنتاجية وعقل ناقد، قادر على التمييز بين الحق والباطل، وعلى اتخاذ القرار، وعلى الإسهام في تنمية وطنه بروح واعية ومستنيرة.
فكلما ارتفع مستوى التعليم، ارتقى الوعي الجمعي، وقلّت الفجوات الاجتماعية، وانخفضت نسب الجريمة، وتوسعت دوائر الإبداع والابتكار.
ومن هنا، لا عجب أن كل دولة تسعى للتقدم تضع التعليم في مقدمة أولوياتها، لا كمجرد خدمة تُقدَّم للمواطن، بل كاستثمار استراتيجي بعيد المدى، يخلق الإنسان المنتج، والمواطن الصالح، والقائد القادر على إحداث الفارق.
التعليم لا يبني الإنسان فقط، بل يُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والدولة. فمن خلاله يتعلّم المواطن معنى الحقوق والواجبات، ويتشرّب قيم الانتماء والمواطنة، ويصبح شريكًا في البناء لا مجرد متلقٍ للخدمات.
ولعل التجارب العالمية أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن الاستثمار في العقل البشري هو الأجدى. فكوريا الجنوبية، وسنغافورة، ورواندا مؤخرًا، لم تنهض بثروات طبيعية، بل بمنظومات تعليمية صارمة وفعّالة، راهنت على الإنسان قبل أي شيء آخر.
في المقابل، فإن التراجع في التعليم لا يؤدي فقط إلى ضعف اقتصادي، بل ينتج عنه تفكك اجتماعي، وانتشار الجهل، والتعصب، والتطرف. فالعقل الخاوي سهل السيطرة عليه، أما العقل المتعلم فلا يُقاد… بل يقود.
وفي مصر، لا يمكن الحديث عن “الجمهورية الجديدة” أو “رؤية 2030” دون أن يكون التعليم هو نقطة الانطلاق. تطوير المناهج، وتأهيل المعلمين، وربط التعليم بسوق العمل، وتبني التكنولوجيا الحديثة، كلها خطوات ضرورية، لكنها لن تنجح دون إيمان حقيقي بأن التعليم ليس رفاهية… بل ضرورة وجودية.
أخيرًا، فإن بناء الأوطان لا يبدأ من الجدران، بل من العقول. ولا يمكن أن ننتظر الغد الأفضل، ونحن نغفل عن حق أبنائنا في تعليم يحفّز عقولهم، ويرتقي بوجدانهم، ويصنع منهم طاقة نور… لا عبئًا على المستقبل.