الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم.. مؤسس دبي الحديثة وباني جسور التعاون العربي
المرفأ…..بقلم المستشار عارف علي راشد العبار
في ذاكرة الخليج العربي المعاصر، يبرز اسم الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم بوصفه أحد أبرز القادة الذين تركوا بصمة واضحة في مسيرة التنمية والتحول الاقتصادي والاجتماعي. فمنذ أن تولى حكم إمارة دبي عام 1958، وحتى وفاته في عام 1990، قاد الشيخ راشد دبي نحو مسار غير تقليدي من النمو، استطاع أن يحوّل الإمارة الصغيرة إلى مركز إقليمي وعالمي نابض بالفرص والاستثمارات.
ومع أن الحديث عن إنجازاته الداخلية في دبي غالبًا ما يحتل الصدارة، إلا أن أدواره في دعم العلاقات العربية – العربية، ولا سيما مع جمهورية مصر العربية، تشكّل جانبًا مهمًا من إرثه السياسي والدبلوماسي، وهو ما يجعل من سيرته قصة تجمع بين الريادة المحلية والانفتاح الإقليمي الواعي.
بداية متواضعة ونظرة بعيدة المدى
ولد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم عام 1912 في مدينة دبي، وسط بيئة اقتصادية محدودة تعتمد على التجارة وصيد اللؤلؤ. نشأ في كنف والده الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم، الذي حكم دبي في فترات صعبة شهدت أزمات اقتصادية وتقلبات إقليمية.
لكن راشد لم يكن راضيًا عن الواقع القائم. كان يتمتع بنظرة استراتيجية تتجاوز حدود الإمارة الصغيرة، وسعى منذ تسلمه الحكم إلى تطوير البنية التحتية، وبناء قاعدة اقتصادية متعددة الموارد، لا تعتمد فقط على النفط الذي تم اكتشافه لاحقًا في عام 1966.
في عهده، تم إنشاء مشاريع ضخمة مثل ميناء راشد، ومطار دبي الدولي، وشبكات الطرق والمياه الحديثة، إلى جانب تشييد المدارس والمستشفيات والمؤسسات الحكومية التي كانت نواة لدبي الحديثة.
اقتصاد ما بعد النفط
رغم أن اكتشاف النفط شكّل نقطة تحول، إلا أن الشيخ راشد لم يتعامل معه كحل دائم. آمن بأن الثروة الحقيقية تكمن في الاستثمار في الإنسان والبنية التحتية، ولذلك أعاد توجيه عائدات النفط نحو بناء اقتصاد متنوع ومستدام.
هذه السياسات وضعت دبي على خارطة المراكز التجارية الدولية، وفتحت الباب أمام تدفقات استثمارية ضخمة، معززة بموقع استراتيجي وخطط طويلة المدى. لم تكن هناك مبالغة حين بدأت الصحافة العالمية تطلق على دبي وصف “المعجزة الخليجية”.
نهضة اجتماعية وتعليمية
لم تقتصر رؤية الشيخ راشد على الاقتصاد فقط، بل شملت أيضًا الجوانب الاجتماعية، إذ شهدت الإمارة في عهده تطورًا ملحوظًا في مجالات التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية.
حرص على بناء مدارس حديثة، وأطلق برامج لدعم التعليم داخل وخارج الإمارة، كما أنشأ مستشفيات ومراكز طبية متطورة نسبيًا في تلك المرحلة، مما عزز من جودة الحياة، ورفع مؤشرات التنمية البشرية في دبي.
علاقات عربية راسخة.. ومكانة خاصة لمصر
على الصعيد الخارجي، تبنّى الشيخ راشد سياسة الانفتاح المتوازن مع العالم، وخصوصًا مع الدول العربية، انطلاقًا من إيمانه بوحدة المصير العربي. وكانت جمهورية مصر العربية تحظى بمكانة خاصة لديه، ليس فقط بوصفها دولة محورية في المنطقة، بل لأنها تمثل قاعدة ثقافية وحضارية ساعدت في نهضة المنطقة بأكملها.
زيارات رسمية وتعاون استراتيجي
قام الشيخ راشد بعدة زيارات رسمية إلى مصر، التقى خلالها بقادة مصريين بارزين، في مقدمتهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولاحقًا الرئيس أنور السادات. هذه الزيارات كانت تهدف إلى:
تعزيز التعاون الاقتصادي، من خلال بحث فرص الاستثمار المتبادل، خاصة في قطاعات مثل العقارات، السياحة، والخدمات.
تبادل الخبرات التنموية، إذ كانت دبي تستفيد من التجربة المصرية في التعليم والصحة والثقافة.
دعم المواقف العربية المشتركة في القضايا الإقليمية والدولية، بما يعكس انتماء الشيخ راشد العروبي العميق.
التعاون الثقافي والإنساني
لم تقتصر العلاقات بين دبي ومصر في عهد الشيخ راشد على السياسة والاقتصاد فقط، بل شهدت تعاونًا ثقافيًا وإنسانيًا واسعًا. استضافت دبي فرقًا فنية مصرية، واحتضنت مهرجانات ومعارض ثقافية كانت جسرًا لتعزيز التقارب بين الشعبين.
كما استقطبت دبي خلال فترة حكمه كفاءات وخبرات مصرية في التعليم، والهندسة، والإعلام، لعبت دورًا كبيرًا في بناء المؤسسات في الإمارة. ولا يزال أثر ذلك واضحًا حتى اليوم.
إرث قائد.. لا يزال يُلهم الأجيال
برحيل الشيخ راشد عام 1990، ترك وراءه نموذجًا يُحتذى به في الحوكمة الرشيدة والرؤية المستقبلية. لم يكن قائدًا عادياً، بل رجل دولة جمع بين الحزم في الإدارة، والمرونة في بناء التحالفات، والبصيرة في التخطيط بعيد المدى.
وقد سار على نهجه أبناؤه من بعده، في مقدمتهم الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي أكمل المسيرة، وارتقى بدبي إلى مصاف المدن العالمية، مع الحفاظ على إرث والده وتوجهاته.
خاتمة: رؤية لا تموت
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على رحيله، ما تزال إنجازات الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم تُدرّس كنموذج في التخطيط الحضري، والبناء المؤسسي، والسياسة المتوازنة. ويظل حضوره حاضرًا في تفاصيل الحياة اليومية في دبي، وفي ذاكرة العلاقات العربية التي لطالما آمن بأنها السبيل نحو استقرار وتنمية مستدامة.