الأردن وإعمار غزة: دور محوري في جهود إعادة البناء وسط تنسيق عربي ودولي

2٬176

المرفأ…ا.د. نورس شطناوي

بعد حرب مدمرة استمرت نحو عامين في قطاع غزة وخلفت دمارًا هائلًا، تتجه الأنظار الآن إلى مرحلة إعادة إعمار القطاع وسط تساؤلات حول الدور المحوري الذي سيلعبه الأردن في هذه الجهود العربية والدولية. تُشير تقديرات الأمم المتحدة إلى دمار غير مسبوق في البنية التحتية لغزة تجاوز 80%، مع توقع حاجات إعادة إعمار تفوق 50 مليار دولار خلال العقد المقبل. وفي هذا السياق برز موقف أردني حاسم يشدد على إعادة إعمار غزة دون تهجير سكانها، وعلى تنسيق الجهود الإقليمية والدولية لإغاثة القطاع وبنائه من جديد.

لعب الأردن دورًا إنسانيًا ودبلوماسيًا بارزًا طوال أزمة غزة، وهو يستعد لتعزيز هذا الدور في مرحلة الإعمار. فعلى الصعيد الإنساني، قادت المملكة جهود إغاثة مكثفة جعلت من الأردن شريان الحياة الرئيسي للمساعدات إلى غزة عبر ما سُمّي بـ«الممر الإغاثي الأردني». سيّرت الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية منذ اندلاع الحرب قوافل إغاثة حملت أكثر من 8,664 شاحنة من المواد الغذائية والطبية والإيوائية عبر المنافذ البرية إلى القطاع، كما نُقلت المساعدات جوًا عبر مطار العريش بالتعاون مع سلاح الجو الأردني، حيث نُقل 530 طنًا من المواد الأساسية، وابتكرت القوات المسلحة الأردنية وسائل للوصول إلى المناطق المحاصرة، منها تنفيذ مئات عمليات الإنزال الجوي أوصلت الغذاء والدواء مباشرة إلى المستشفيات والمناطق المنكوبة داخل غزة. هذه الجهود جسّدت رؤية الأردن في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في أصعب الظروف.

واصلت القوات المسلحة الأردنية تقديم خدماتها الطبية عبر مستشفياتها الميدانية في غزة، حيث يعمل الآن مستشفيان ميدانيان أردنيان يوفران الرعاية الطبية بما فيها العمليات الجراحية وتقديم الأدوية لتخفيف معاناة الجرحى والمرضى. عالجت الفرق الطبية الأردنية عشرات الآلاف من الحالات خلال الحرب، وإلى جانب العلاج أطلقت تلك الفرق مبادرة لتركيب الأطراف الصناعية لمبتوري الحرب وزوّدت عبرها مئات المصابين بأطراف صناعية جديدة. هذا الدور الطبي والهندسي ينبئ بأن الأردن سيواصل مساهمته الميدانية في مرحلة الإعمار، سواء عبر توسيع عمل مستشفياته الميدانية أو إرسال فرق هندسية للمساعدة في رفع الأنقاض وإعادة تأهيل المرافق الحيوية حال استقرار الأوضاع الأمنية.

دبلوماسيًا، يتحرك الأردن بنشاط لضمان أن تكون عملية إعادة الإعمار منسقة وعادلة. وقد أكد وزير الخارجية أيمن الصفدي استعداد المملكة لاستئناف إدخال المساعدات إلى غزة فور إزالة القيود الإسرائيلية وبشكل آمن. وشارك الأردن في اجتماعات إقليمية ودولية لمناقشة مستقبل غزة، مؤكدًا رفض مخططات ترحيل سكان القطاع وحفاظًا على حقوقهم المشروعة. أعلن الصفدي أن الأردن يعمل على مقترح عربي لإعادة إعمار غزة دون تهجير أهلها، مؤكّدًا أن رفض التهجير موقف أردني ثابت أكده جلالة الملك عبد الله الثاني في اتصالاته الدولية. كذلك يربط الأردن بين إعادة الإعمار وتحريك العملية السياسية، إذ يعتبر أن السلام العادل لن يتحقق إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية لضمان عدم تكرار العنف والدمار. ورحّب الأردن باتفاق وقف إطلاق النار الأخير في غزة وبدء تنفيذ مرحلته الأولى، مشددًا على وجوب إنهاء الحرب تمامًا والبدء الفوري في إعادة الإعمار لمعالجة التبعات الكارثية للعدوان.

على صعيد التنسيق مع الفلسطينيين والجهات الدولية، يحافظ الأردن على اتصالات مكثفة مع السلطة الفلسطينية لضمان أن تتم جهود الإعمار بالتعاون مع المؤسسات الفلسطينية الشرعية. ويواصل الأردن العمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين لضمان إيصال المساعدات الإنسانية بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة، وإطلاق مسار لا رجعة فيه نحو سلام عادل على أساس حل الدولتين. ومن المنتظر أن يشارك الأردن في أي آلية دولية تُنشأ لإدارة أموال ومشاريع الإعمار، مستفيدًا من موقعه كحلقة وصل موثوقة بين المجتمع الدولي والفلسطينيين. وينظر الأردن إلى إعمار غزة على أنه أولوية جماعية يجب أن تتصدر أجندة المجتمع الدولي، لأسباب إنسانية وأمنية ولتحقيق الاستقرار الإقليمي.

إلى جانب الدور العربي، يمثل المجتمع الدولي ضلعًا أساسيًا في جهود إعمار غزة عبر التمويل والإشراف والخبرات الفنية. وقد أعلنت الأمم المتحدة بدء وقف إطلاق النار أنها ستقود تنسيق جهود الإغاثة العاجلة والإعمار طويل الأمد. وقدّر تقرير أممي أن غزة تحتاج نحو 53 مليار دولار خلال عشر سنوات لإعادة البناء والتنمية، منها 20 مليار دولار بشكل عاجل في السنوات الثلاث الأولى لإعادة تشغيل الخدمات الأساسية. وحذّر التقرير من أن الإعمار لن يكون ممكنًا دون وقف دائم لإطلاق النار وتأمين ممرات آمنة لإدخال المواد اللازمة. وأكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ضرورة أن تسهّل جميع الأطراف وصول جهود الإعمار والمساعدات الإنسانية بلا عوائق، منوهًا بأن الأموال المطلوبة تفوق بكثير إمكانات أي طرف منفرد. وبناءً عليه، تعمل الأمم المتحدة على إنشاء آلية تنسيق دولية تجمع المانحين وتحدد الأولويات بالتعاون مع السلطة الفلسطينية.

أعربت الولايات المتحدة عن استعدادها للمساهمة في إعمار غزة، لكنها تفضّل أن يأتي التمويل من دول المنطقة، مع سعيها لمراقبة إنفاق الأموال وضمان تخصيصها حصريًا للإعمار المدني، الأمر الذي قوبل بتحفّظ عربي على أي هيمنة خارجية. ومن المتوقع أن تقدّم واشنطن دعمًا لمشاريع محددة مثل إصلاح شبكات المياه والصرف الصحي وتعزيز الصحة في غزة، وربما تربط مساهمتها بتحقيق تقدّم في إدارة القطاع كعودة دور السلطة الفلسطينية أو تشكيل إدارة مدنية مقبولة دوليًا لضمان استقرار طويل الأمد. في المقابل، تبدي الدول الأوروبية اهتمامًا ملموسًا بقيادة جهود إعادة الإعمار المدني؛ حيث قدمت ألمانيا مساعدات عاجلة ودعت إلى مؤتمر دولي مع مصر لحشد الدعم المالي. كما تستعد فرنسا للعب دور سياسي في العملية. وإلى جانب الحكومات، ستسهم منظمات دولية غير حكومية في إعادة تأهيل المدارس والخدمات الاجتماعية وإزالة الأنقاض، فيما يوفر البنك الدولي وبنوك تنموية إقليمية تمويلًا أو قروضًا ميسرة للمشاريع الكبرى. وقد تُطرح مبادرات لضمان الشفافية في استخدام الأموال، وتنطلق هذه الجهود من قناعة بأن إعمار غزة ليس واجبًا إنسانيًا فحسب، بل أيضًا استثمار في استقرار إقليمي.

تمويل إعادة إعمار غزة هو حجر الأساس الذي تُبنى عليه بقية الجهود. اذ تتفاوت تقديرات تكلفة العملية بين 50 و80 مليار دولار، مما يستدعي تنظيم مؤتمرات مانحين متعددة على مدار السنوات المقبلة. وقد يُعقد أول مؤتمر في أواخر 2025 برعاية مصر وألمانيا والأمم المتحدة للإعلان عن التعهدات الأولية. ومن المرجح أن تقدم دول الخليج القسم الأكبر من التمويل العربي بتعهدات قد تصل إلى عشرات المليارات موزعة على مراحل، بينما يُنتظر مساهمة أوروبية موازية أو أكبر على المدى الطويل. وربما تكتفي الولايات المتحدة بعدة مئات ملايين إلى نحو مليار دولار سنويًا عبر برامجها، رهنًا بموافقة الكونغرس، مع إسهامات إضافية مرتقبة من اليابان وكوريا الجنوبية وحتى الصين. ولضمان تدفق الأموال باستمرار، طُرحت فكرة إنشاء صندوق ائتماني دولي لتجميع التعهدات، إلى جانب دراسة أدوات تمويل مبتكرة مثل سندات تنمية مخصّصة لغزة أو مبادلة ديون وتوجيهها للإعمار. ومع ذلك، تبقى فجوة التمويل محتملة، خاصة إذا ضعفت حماسة المانحين أو برزت أزمات عالمية تنافس على الموارد.

تشمل مشاريع البنية التحتية في غزة تقريبًا كل شيء: الكهرباء والمياه والصرف الصحي، المستشفيات والمدارس، الوحدات السكنية والطرق والجسور، وشبكات الاتصالات والإنترنت، وصولًا إلى بناء الميناء والمطار والمناطق الصناعية المخطط لها. غزة ما بعد الحرب بحاجة إلى إعادة بناء شاملة من تحت الأنقاض، وتتمثل الخطوة العاجلة الأولى في إزالة الركام المقدّر بحوالي 26 مليون طن. وستتطلب هذه العملية وحدها جهدًا دوليًا وتمويلًا يقارب مليار دولار، إضافة إلى ترتيبات أمنية لحماية العاملين وسط انتشار الذخائر غير المنفجرة.

اتُّفِق على منح أولوية خلال الأشهر الستة الأولى بعد وقف النار لإزالة الأنقاض وفتح الطرق الرئيسية تمهيدًا لنقل مواد البناء الثقيلة، بالتوازي مع إنشاء مساكن مؤقتة لإيواء مئات الآلاف ممن فقدوا منازلهم. وبعد الإيواء المؤقت وإزالة الركام، ستنطلق ورشة إعادة إعمار البنية التحتية الأساسية. وتشكل معالجة أزمة الكهرباء أولوية قصوى، إذ عانت غزة قبل الحرب من عجز كهربائي حاد وأصبحت الآن بلا كهرباء. تشمل الحلول ترميم وتوسعة محطة التوليد الوحيدة، وإقامة مشاريع طاقة متجددة بالتعاون الدولي، وربط غزة بالشبكة الكهربائية المصرية لتعزيز الإمداد على المدى المتوسط. وبالمثل، لا بد من إعادة بناء شبكات المياه والصرف الصحي التي تضررت بشدة لتجنب كارثة صحية، فغزة تعاني من نقص مزمن في مياه الشرب، مما يتطلب إنشاء محطات لتحلية مياه البحر بدعم أوروبي وخليجي. وفي القطاع الصحي، سيُعاد بناء المستشفيات المدمرة وتوسعة المستشفيات الأخرى القائمة بدعم من دول كقطر ومصر لبناء مستشفيات جديدة. وستتم صيانة عشرات العيادات الصحية بدعم دولي. وفي قطاع التعليم، ستُعاد بناء وترميم مئات المدارس المدمرة، مع تمويل جزئي من مؤسسات تنموية دولية.

تتضمن المشاريع الاستراتيجية المنتظرة منذ سنوات إنشاء ميناء بحري ومطار. خصصت الخطة المصرية في مرحلتها الثانية ميزانية لبناء الميناء والمطار بحلول عام 2030، حيث سيسمح الميناء لغزة بالتبادل التجاري المباشر مع العالم ويخفف الاعتماد على المعابر الإسرائيلية، بينما سيعيد المطار ربط غزة جوًا بالعالم لأول مرة منذ تدمير مطارها عام 2001. ولا شك أن هذه المشاريع تواجه عقبات سياسية، إذ قد تتحفظ إسرائيل لدواعٍ أمنية، لكن يُطرح بالمقابل وضع ترتيبات خاصة مثل تشغيل المنشأتين تحت إشراف دولي لضمان الاستخدام المدني فقط. وتشمل المقترحات الأخرى إنعاش الزراعة عبر استصلاح أراضٍ جديدة وإنشاء مناطق صناعية لتوفير فرص عمل والحد من البطالة. وتتطلع بعض الرؤى إلى تحويل غزة مستقبلًا إلى مركز اقتصادي حيوي يشمل التكنولوجيا والسياحة وهي رؤية تهدف إلى نقل غزة «من الركام إلى الريادة» اقتصاديًا.

يقف الأردن ومعه الأشقاء العرب والمجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي في غزة: اختبار القدرة على تحويل الدمار إلى أمل. فإن النجاح في إعادة إعمار غزة سيكون رسالة بليغة بأن التكاتف الدولي قادر على مداواة جراح أعقد أزمات المنطقة. الدور الأردني مرشح ليكون ضمير هذه العملية وعمودها الفقري، مستندًا إلى مصداقيته الإقليمية وصلابة موقفه المطالب بإعمار بلا تهجير وسلام بلا انتقاص. وبدعم عربي ودولي، تحظى غزة بفرصة تاريخية للنهوض من تحت الركام. بيد أن ترجمة هذه الفرصة إلى واقع ملموس تعتمد على استمرار وحدة الموقف، وتأمين التمويل الكافي في الوقت المناسب، وتذليل العقبات السياسية والأمنية أمام إعمار غزة. ولا شك أن صمود الشعب الفلسطيني سيكون الأساس الذي تُبنى عليه نهضة غزة. إنها مهمة شاقة وطويلة، لكنها ليست مستحيلة إذا توفرت الإرادة والتنسيق.

قد يعجبك ايضا