العدل واجتناب الظلم… ركيزتا استقامة المجتمعات

3٬319

 

المرفأ….بقلم الدكتورة سحر النجار

يُعدّ العدل من أسمى القيم التي قامت عليها الحضارات، فهو المعيار الذي يُقاس به رقيّ الأمم واستقرارها، والعدل اسم من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وكذا المقسط الجامع، ولذا كان الركيزة الأساسية التي تُبنى عليها الثقة بين الأفراد ومؤسسات الدولة. وعلى النقيض تمامًا، يقف الظلم كأخطر ما يمكن أن يفتك بالمجتمعات، يهدمها من الداخل، ويزرع الشك والكراهية في نفوس أبنائها.
العدل ليس مجرد شعار يُرفع في الخطب، أو مادة تُدرّس في المناهج، أو كلمة رنانة يتشدق بها مدعو الفضيلة، بل هو منهج حياة وسلوك يومي يُترجم في القرارات، والمعاملات، وحتى في أبسط تفاصيل الحياة. حين يشعر المواطن بأن حقه مصان، وأن القانون يُطبّق على الجميع دون تمييز؛ فعندئذ تتولد لديه روح الانتماء والثقة، ويصبح شريكًا حقيقيًّا في بناء الوطن.
أما إذا اختلّ ميزان العدالة، وحلّ محلّه التحيّز والمحاباة، ووجد التربص مستقره ومبتغاه، فإن أول ما يضيع هو الإحساس بالأمان، ثم تتآكل القيم، وتتصدع الروابط الاجتماعية، وتضعف الشخصية، ويصير المرء مسخًا بلا كرامة أو هوية، وصدق رسول الانسانية ومعلم البشرية حين قال في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أمنا عائشة رضي الله عنها” أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّتْهُمُ المَرْأَةُ المَخْزُومِيَّةُ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: مَن يُكَلِّمُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَكَلَّمَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، قَالَ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّما ضَلَّ مَن قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فيهم أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ، لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا”.
وعلى هذا النهج سار صحابته رضوان الله عليهم وسلفهم الصالح، فعن أنس بن مالك (رضى الله عنه) أنه أتى رجل من أهل مصر يحمل مظلمة إلى عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، فقال له يا أمير المؤمنين إنى عائذ بك من الظلم. فأجابه عمر: «عذت بمعاذ»، فقال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربنى بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر الفاروق إلى عمرو بن العاص يأمره بالقدوم عليه، و ابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصريّ؟ خذ السوط، فاضرب، فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. ولعدالتهم وإصلاحهم سادوا الدنيا، ونشروا دين الحق، ورفعوا راية الإسلام خفاقة في كل أرض وطئتها أقدامهم.
ولعلّ التاريخ الإنساني شاهد على أن سقوط الإمبراطوريات الكبرى لم يكن نتيجة ضعف اقتصادي أو عسكري فحسب، بل غالبًا ما بدأ بانهيار منظومة العدل داخلها. فالظلم، وإن بدا أحيانًا وسيلة سريعة لتحقيق مكاسب مؤقتة، إلا أنه في جوهره قنبلة موقوتة تنفجر عاجلًا أو آجلاً، مخلّفةً جراحًا عميقة في ضمير الأمة.
ومن الناحية النفسية، العدل يُنتج أفرادًا أسوياء، واثقين من قدراتهم، متصالحين مع ذواتهم ومجتمعاتهم، قادرين على النهوض بها. أما الظلم فيترك ندوبًا لا تُمحى، تزرع الإحباط وتغذّي روح الانتقام والعنف، وإذا استسلم المرء للظلم، وتقاعس عن نصرة الحق، فقد رضي بالضعف والهوان، وحكم على نفسه بالذلة والخنوع.
وقد أثبتت دراسات حديثة في علم الاجتماع أن المجتمعات التي يسود فيها الظلم ترتفع فيها معدلات الجريمة والانحراف، بينما تزدهر في المجتمعات العادلة قيم العمل والتطوع والإبداع.
ولا يقتصر مفهوم العدل على السلطة القضائية فحسب، بل يمتد إلى كل مجالات الحياة: عدلٌ في توزيع الفرص، وعدلٌ في الأجور، وعدلٌ في التعامل بين الجنسين، وعدلٌ في تقييم الجهود، وهذا توجيهه سبحانه على لسان حبيبه ومصطفاه في (سورة الشورى الآية ١٥) “وأمرت لأعدل بينكم”. وحتى على المستوى الأسري، حين يسود العدل بين الأبناء، تنشأ بيئة مستقرة متوازنة، تكون نواة لمجتمع سليم.
إن تحقيق العدالة ليس مهمة جهة واحدة، بل هو مسؤولية جماعية تبدأ من الفرد وتنتهي بالدولة، وصدق الله تعالى إذ وجهنا في دستوره الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (النساء: 135)، وبين سبحانه أن العدل هو الذي جاءت به الرسالات السماويه فقال في (سورة الحديد الآية ٢٥) “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” فالمعلم حين ينصف طلابه، والمسؤول حين يؤدي واجبه دون تمييز، والصحفي حين يكتب بضمير، كل هؤلاء يرسّخون ثقافة العدل في المجتمع وقد جعل الله العدل دليلًا على التقوى فقال في سورة (المائدة الآية ٨) “اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”.
وبالمقابل، حين يُهمَل هذا المبدأ أو يُستهان به – خاصة إذا كان ممن يؤمل فيهم نشر العدل والوسطية وإحقاق الحق – تُفتح أبواب الفساد على مصراعيها، مما ينذر بكارثة على الأوطان أفرادًا وجماعات ومؤسسات.
ختامًا، يبقى العدل قيمة إلهية وسنّة كونية لا تستقيم الحياة بدونها. قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ”(سورة النحل الاية٩٠)، فبقدر ما نُقيم العدل بيننا، نحيا في طمأنينة واستقرار، وبقدر ما نسمح للظلم أن يتسلل، نكتب بأيدينا شهادة سقوطنا. فليكن العدل نبراسنا الدائم، فهو الطريق الأوحد إلى النهضة والكرامة والإنسانية.

قد يعجبك ايضا