العين العماوي تكتب: بوصلة إحصائيات الفقر ضرورة لنجاح رؤية التحديث الاقتصادي
المرفأ…كتبت. العين د. عبلة العماوي
إن خط الفقر الوطني أداة حوكمة إستراتيجية لا غنى عنها؛ فهو العمود الفقري الإحصائي الذي يعكس دقة التخطيط المالي وكفاءة توجيه الموارد والبرامج الاجتماعية، ويكفل وصولها العادل والفعال للمستحقين. على ضوء التحديات الاقتصادية في المرحلة الحالية، تبرز الحاجة لمعالجة فورية لثلاثة محاور: المنهجية الإحصائية للاستمرارية، تكامل البيانات لرفع كفاءة الاستهداف، والأهم، تأكيد الشفافية والإفصاح كركيزة لتعزيز الثقة العامة.
يمثل خط الفقر الوطني الأداة المركزية والحاسمة لتحديد الفئات الأكثر احتياجاً وتوجيه السياسات. يُقاس عبر المسوحات الدورية لدخل ونفقات الأسرة (HEIS) التي تنفذها دائرة الإحصاءات العامة. تعتمد المنهجية الرسمية على مفهوم “خط الفقر المطلق”، الذي يحدد التكلفة النقدية لسلة الاحتياجات الأساسية (الغذاء، المأوى، الملبس، التعليم، الصحة، والنقل)، موفراً معياراً موحداً وفعالاً لتمكين استهداف الدعم الحكومي والبرامج التنموية.
وبحسب أحدث مسح لدخل ونفقات الأسرة لعام 2017–2018، أعلنت دائرة الإحصاءات العامة نتائج أحدث خط فقر وطني في شهر آب (أغسطس) 2020، أي بعد نحو عامين من تنفيذ المسح، نتيجة مراجعات فنية ومنهجية بالتعاون مع البنك الدولي.
ووفقاً لهذه النتائج، بلغت نسبة الفقر المطلق بين الأردنيين 15.7%، أي ما يقارب 1.069 مليون شخص فيما بلغت القيمة النقدية لخط الفقر المطلق بلغت 68 دينارًا شهريًا للفرد. أما نسبة فقر الجوع (الفقر المدقع) فقد سجّلت مستوى محدوداً جداً 0.12%، أي ما يعادل 7,993 فردًا. وتُعدّ هذه الأرقام المرجعية الرسمية الأخيرة لقياس الفقر في الأردن، وهي القاعدة الإحصائية التي ينبغي أن يُبنى عليها أي تحديث لاحق لخط الفقر الوطني أو تقييم لسياسات الحماية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.
تحدي الفجوة: الحاجة إلى بيانات آنية لدعم صانع القرار
يشير الواقع الاقتصادي والتقديرات التحليلية إلى ضرورة الإسراع بتحديث قياسات الفقر. غياب تحديث رسمي منذ 2018 يُعيق قدرة الدولة على اتخاذ قرارات دقيقة. تباينت التقديرات الحديثة بشكل ملفت: حيث أشارت تحليلات الوزارات الرسمية (2021) إلى وصول نسبة الفقر إلى 24.0%، بينما جاء في تقرير البنك الدولي (أطلس أهداف التنمية 2023) أن تبلغ 35.0%، هذا التأخير لا يعقد فقط صياغة سياسات وإصلاحات اقتصادية فعالة، بل يُصعّب تقييم نجاح برامج الدعم وإعادة توجيهها بشكل دقيق وعادل نحو الفئات الأكثر تضرراً.
يُضاف إلى تحدي القياس الثابت ضرورة معالجة ظاهرة الفقر العابر (Transient Poor) وتآكل الطبقة الوسطى. تتركز أعداد كبيرة من الأسر فوق خط الفقر مباشرةً، مما يجعلهم عرضة بشكل خاص للصدمات الاقتصادية المفاجئة (كالتضخم أو فقدان الوظيفة). تفشل المنهجيات التقليدية في التقاط هذه السيولة الهشة وعدم الاستقرار الاقتصادي، وبالتالي قد تخفي الأرقام الرسمية المدى الحقيقي للهشاشة الاقتصادية التي تهدد شرائح واسعة من المجتمع.
استمرارية المنهجية: ضرورة لقياس التقدم وتقييم الأثر
على الرغم من أن مسح 2010 وفّر مرجعية تاريخية مهمة، فإن التغييرات المنهجية الجوهرية في مسح 2017–2018 أدت إلى “انقطاع” في السلسلة الإحصائية. من أبرز هذه التغييرات: إعادة تعريف سلة الاستهلاك أو الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك تعديل مكونات الغذاء، الإسكان، التعليم، الصحة، والنقل، فضلاً عن تحديث طريقة احتساب الإنفاق الفردي مقابل هذه الاحتياجات. كما تغيرت منهجية تحديد خط الفقر المطلق والفقر المدقع، بما شمل تعديل المعايير المستخدمة لتصنيف الأسر وفق مستوى معيشيتها. نتيجة لهذه التغييرات، لم يعد بالإمكان مقارنة نتائج الفقر مباشرة مع مسح 2010 لتحديد اتجاهاته عبر الزمن، ما أدى إلى صعوبة قياس مدى فعالية السياسات الاقتصادية والاجتماعية السابقة. كما أثر هذا الانقطاع في قدرة صانعي القرار على تقييم التفاوتات الجغرافية والاجتماعية للفقر بدقة، وتقليل القيمة التحليلية للبيانات في التخطيط المعياري للبرامج التنموية والحماية الاجتماعية. إن استعادة الاستمرارية المنهجية أولوية وطنية، كونها شرطاً أساسياً لقياس أثر السياسات العامة وتقييم فعالية برامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
دراسة خط الفقر لعام 2010 كانت بمثابة أداة سياساتية حاسمة، إذ لم تكتفِ بتقدير المعدل الوطني للفقر، بل حددت بوضوح “جيوب الفقر”؛ أي المناطق التي تتجاوز فيها نسبة الأسر الفقيرة 25%، فضلاً عن توفير تصنيفٍ جغرافيٍّ دقيقٍ للفقر على مستوى المحافظات، شكّل قاعدة معرفية مهمة يمكن الاستناد إليها في توجيه الاستثمارات العامة وبرامج التنمية نحو المناطق الأكثر احتياجًا فعليًا. في المقابل، فإن دراسة خط الفقر الأحدث (2017–2018) اقتصرت على عرض المعدل الوطني العام، دون تفصيلٍ جغرافي يُظهر التفاوتات بين المحافظات أو يُعين صانع القرار على استهداف الفقر مكانيًا، ما مثّل تراجعًا في القيمة السياساتية للنتائج مقارنة بدراسة عام 2010.
إن عدم تصنيف جيوب الفقر وعدم توفير بيانات تفصيلية على مستوى المحافظات أضعف القيمة السياساتية للدراسة بشكل كبير. هذا الإغفال يحجب خريطة توزيع الفقر الفعلية، مما يجعل مواءمة استراتيجيات الحدّ من الفقر مع الاحتياجات المحلية أمراً شبه مستحيل. النتيجة المباشرة هي تزايد خطر التوزيع المتساوي للموارد بدلاً من التوزيع العادل والموجه بالأدلة. هذا التوجه يعيق قدرة صانعي السياسات على تصميم تدخلات فعالة، ويُصعّب تتبّع وتقييم أثر برامج التنمية الإقليمية.
خط الفقر والأجور ومحورية التحديث الاقتصادي
يرتبط تحديث خط الفقر مباشرة بسياسات الأجور؛ إذ يجب استخدامه كمعيار لتحديد الحد الأدنى للأجور ومنع “الفقر بين العاملين”. إن تحديد الأجور بمعزل عن خط فقر محدّث يضعف حماية القوى العاملة ويزيد الاعتماد على المساعدات، في تناقض مع أهداف الكفاءة لرؤية التحديث الاقتصادي. علاوة على ذلك، يتيح تحديث البيانات قياس الأثر الاجتماعي الحقيقي للنمو الاقتصادي، ويضمن أن التحول الهيكلي يصب في صالح الفئات الأقل دخلاً. الاستثمار في هذه البيانات هو استثمار في نجاح الرؤية ذاتها لضمان عدم اتساع التفاوت وعودة المنفعة المستدامة على جميع الأسر.
خارطة طريق تنفيذية: توصيات عاجلة
لضمان فعالية خط الفقر الوطني ودوره في دعم رؤية التحديث الاقتصادي، تُوصى الحكومة باتخاذ الإجراءات الاستراتيجية التالية:
1. إطلاق مسح دخل ونفقات الأسرة (HEIS) جديد وفوري: تكليف رسمي بإجراء المسح خلال 12 شهرًا، بقيادة دائرة الإحصاءات العامة وبالتعاون مع وزارات التخطيط والمالية والبنك المركزي، مع تأمين التمويل اللازم لضمان توافر بيانات عامي 2024/2025 في الربع الثالث من 2026، وذلك لتجاوز فجوة البيانات منذ مسح 2017–2018.
2. تشكيل فريق حكومي- فني رفيع المستوى: لضمان جودة البيانات واستمراريتها، وتنسيق المنهجية بين الجهات المعنية، بما يتيح ربط نتائج المسح الجديد بالبيانات التاريخية وتمكين المقارنات عبر الزمن لتقييم أثر السياسات السابقة.
3. تأسيس مرصد دائم للفقر: دمج البيانات الإدارية الآنية (الضمان الاجتماعي، صندوق المعونة، سجل السكان) مع نتائج المسوحات الإحصائية، لإنتاج مؤشرات تقديرية شبه سنوية، تشمل الفقر العابر والهشاشة الاقتصادية للطبقة الوسطى، مما يوفر لصانعي القرار أداة آنية لمتابعة أثر السياسات شهريًا أو فصليًا.
4. إدراج التحليل الجغرافي التفصيلي: تحديد جيوب الفقر على مستوى المحافظات، بما يعكس التفاوت المكاني ويتيح توجيه الاستثمارات العامة والبرامج التنموية نحو المناطق الأكثر احتياجًا فعليًا، لتجنب توزيع الموارد بشكل متساوٍ غير مستهدف.
5. إعادة تعريف وتحديث مؤشرات الفقر وسلة الاحتياجات الأساسية: مراجعة شاملة للسلة المعيشية (الغذاء، الإسكان، التعليم، الصحة، والنقل)، بما يعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي الحالي، مع التأكيد على اتساق المقارنة مع البيانات التاريخية لضمان استمرار سلسلة إحصائية موثوقة.
6. ربط الحد الأدنى للأجور بخط الفقر المحدّث: ضمان أن يعكس الحد الأدنى للأجور الكلفة الحقيقية لسلة الاحتياجات الأساسية، وحماية الفقراء العاملين من الفقر، بما يدعم أهداف الكفاءة والعدالة في سوق العمل ويقلل الاعتماد على شبكات الأمان الاجتماعي.
7. حوكمة شفافة وموجهة بالنتائج: تعزيز الشفافية والإفصاح العام، وإرساء آليات متابعة ومساءلة لصانعي القرار، لضمان استخدام البيانات بدقة في تصميم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز تأثير النمو الاقتصادي على الفئات الأكثر حاجة، وضمان تحقيق النتائج الملموسة لرؤية التحديث الاقتصادي.