الخليّة الفدائيّة… حين يتحوّل حارس الجسد إلى خصمٍ شرس: حكاية النيتروفيل بين الفداء والانقلاب”

3٬291

 

 

المرفأ- بقلم: د. شيرين علوان استاذ مساعد بكليه الطب جامعة طنطا

هناك ما يستوقفني دائمًا في عالم المناعة… قصّة حياة خليّة لا تشبه غيرها. خليّة أسمّيها دائمًا ”الخليّة الفدائيّة“. إنها النيتروفيل – Neutrophil، الجندي الأول الذي يقف على بوابة الجسد، مستعدًا في كل لحظة لأن يدافع عنه… ولو كان ثمن ذلك حياته.

هذه الخليّة تمتلك قدرة عجيبة: فبمجرد أن تلمح ميكروبًا يهدّد سلامة الجسد، تدخل في ملحمة أسطورية.

تمزّق غشاء نواتها بيدها، وتفكّ شريط الـ DNA الخاص بها، وتنسجه خارجها مع مجموعة من البروتينات القاتلة، لتصنع شبكة لاصقة وسامة تُسمّى .NETosis.

إنها أشبه برصاصة بيولوجية تنطلق لتفتك بأي غريب يقترب.

ولأنها تعرف أن هذه العملية هي نهايتها… تموت راضية، بعدما منعت عنّا خطرًا كان يوشك أن يفتك بنا.

لكن…

هنا تبدأ المفارقة الصادمة.

فـ نفس الخلية الفدائية، الحارس الذي مات مرارًا ليحمينا، يمكن أن تنقلب علينا في غمضة عين.

قد تُطلق آليّة «النتوزيس» نفسها من دون وجود أي ميكروب، ومن دون تهديد حقيقي.

تبقى بروتيناتها السامة الـ (cytotoxic proteins) وشرائط الـ DNA المتفجّرة في الدم والأنسجة بلا هدف…

فتتحول من شبكة تحمينا إلى شبكة تخنق خلايانا نحن.

ويحدث حينها ما لا نتوقعه:

الخليّة التي تموت من أجلنا، قد تصبح هي نفسها مصدر الأذى،

والرصاصة التي كانت دفاعًا… تتحول إلى طلقة مرتدة تصيب الجسد الذي جاءت لحمايته.

إنها مأساة المناعة حين تفقد بوصلتها.

وهي كذلك حكاية دقيقة عن الحدود الرفيعة بين الدفاع والعدوان، بين الفداء والانقلاب.

النيتروفيل ليست مجرد خلية…

إنها درس بيولوجي وإنساني:

أن القوة التي تحمينا قد تكون نفسها مصدر الخطر إذا خرجت عن سياقها،

وأن الحرّاس الأقوياء… حين يختل توازنهم، قد يصبحون أشدّ المتربصين بنا.

هكذا تظل النيتروفيل، بكل ما فيها من شجاعة واندفاع، نموذجًا يذكّرنا أن الحماية ليست مطلقة، وأن الجسد نفسه قد يحمل بداخله أحيانًا ما يمكن أن يؤذيه.

قد يعجبك ايضا