مستقبل الزراعة في عصر الذكاء الاصطناعي
ابقلم: الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد الرواشدة
مدير عام المركز الوطني للبحوث الزراعية
المرفأ- منذ بداية تشكّل الحضارة الإنسانية، كانت الزراعة تُمارَس بأدوات بسيطة، أبرزها المعول الذي رافق المزارع لعقود طويلة، وكان رمزًا لبدايات الإنتاج الزراعي التقليدي. تلك المرحلة، رغم بساطتها، شكّلت الأساس الذي بُنيت عليه كل التطورات اللاحقة في هذا القطاع الحيوي. ومع تقدّم العلم وتراكم المعرفة، بدأت الثورة الزراعية تتشكّل على مراحل، وصولًا إلى اللحظة الراهنة التي بات فيها الذكاء الاصطناعي أحد أهم المحركات التي تعيد صياغة مستقبل الزراعة عالميًا.
اليوم لم يعد المزارع يعتمد فقط على خبرته التقليدية أو ملاحظاته الميدانية، بل أصبح يمتلك عالمًا كاملًا بين يديه بفضل التقنيات الرقمية. فمن خلال الأنظمة الذكية، وتطبيقات الاستشعار عن بُعد، والصور الفضائية، وتحليل البيانات الضخمة، بات المزارع قادرًا على اتخاذ قرارات دقيقة، مبنية على معطيات علمية فورية، تكفل له إنتاجية أعلى، وجودة أفضل، وكفاءة استخدام غير مسبوقة للموارد.
لقد شهدنا كيف أحدثت التقنيات الحديثة نقلة نوعية في طرق الرصد والمتابعة. فبدلًا من مراقبة الحقول بالنظر، أصبح بالإمكان استخدام الطائرات المسيّرة (الدرونز) لرصد صحة النبات، وقياس مستويات الرطوبة، وتحديد أماكن الإصابة بدقة متناهية. كما أتاحت أنظمة إنترنت الأشياء الزراعية ، مراقبة التربة والطقس والري بشكل لحظي، مما منح المزارع قدرة على ضبط عملياته الزراعية بطريقة ذكية، تضمن ترشيد المياه والطاقة وتقليل الفاقد.
أما الذكاء الاصطناعي، فقد شكّل ثورة بحد ذاته في تحليل البيانات الزراعية. فالخوارزميات المتقدمة تستطيع التنبؤ بالإنتاج قبل حصاده، وتشخيص أمراض النبات خلال ثوانٍ، وتقديم توصيات دقيقة حول معدلات الري والتسميد. هذه التقنيات حولت الحقول إلى منظومات ذكية ذاتية التعلم، قادرة على التطور والتكيّف مع الظروف المتغيرة.
إن هذا التحول يعيد صياغة مفهوم الزراعة ليجعلها أكثر استدامة، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات العالمية، وعلى رأسها تغيّر المناخ وندرة المياه والزيادة السكانية. وفي ظل هذه التطورات، أصبح الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية لضمان الأمن الغذائي وتعزيز القدرة التنافسية للقطاع الزراعي.
ويبرز دور المؤسسات البحثية، وفي مقدمتها المركز الوطني للبحوث الزراعية، في قيادة هذا التحول من خلال توظيف المعرفة، وتطوير حلول ابتكارية، وبناء شراكات مع القطاع الخاص والمزارعين، بهدف نشر ثقافة الزراعة الذكية وتبني التكنولوجيا المتقدمة على نطاق واسع.
ختامًا، يمكن القول إن الزراعة انتقلت من مرحلة المعول إلى عصر الخوارزميات، ومن العمل اليدوي إلى الأنظمة الذاتية، ومن المعرفة الحدسية إلى الزراعة الرقمية القائمة على البيانات. وما نشهده اليوم ليس سوى بداية لمرحلة أكثر تقدمًا، سيكون فيها الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية لبناء منظومة زراعية قادرة على الاستجابة لمتطلبات المستقبل بكفاءة وابتكار