“التعليم… قاطرة التنميه
المرفأ- لا يمكن لأي دولة أن تخوض طريق التقدّم دون أن تضع التعليم في مقدّمة أولوياتها، فهو القاطرة التي تجرّ خلفها كل عربات التنمية: الاقتصاد، والصحة، والثقافة، والابتكار. وحين نتأمل تجارب الأمم التي نجحت في القفز إلى مصاف الدول المتقدمة، نجد أن نقطة الانطلاق كانت دومًا «مدرسة»؛ معلمٌ مؤهَّل، ومناهج حيّة، وبيئة تعليمية تقدّر العقل وتحتضن الخيال. فالتعليم ليس قطاعًا خدميًا كما يتوهّم البعض، بل هو استثمار بعيد المدى في الإنسان، وفي المستقبل، وفي الهوية.
لقد تغير العالم بوتيرة متسارعة، ودخلت التكنولوجيا عمق تفاصيل الحياة، وأصبح الاقتصاد العالمي يقوم على المعرفة لا على المواد الخام. وفي هذا المشهد المتحول، بات من المستحيل أن تنافس أمةٌ بلا تعليم قوي، أو تُحقق تنمية شاملة بيد عاملة تفتقر إلى التدريب والمهارات. فالقيمة الحقيقية اليوم ليست في الموارد الطبيعية، بل في العقول القادرة على الإبداع. ولهذا، فإن بناء نظام تعليمي متين لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية لتثبيت مكانة الدول في عالم شديد التنافس.
إن الاستثمار في التعليم هو الضمان الحقيقي لتحقيق العدالة الاجتماعية. فحين تُفتح أبواب المعرفة أمام الجميع، دون تمييز، يصبح التعليم هو الرافعة الأساسية لتحسين مستوى المعيشة، وتقليص فجوات الدخل، وتمكين الفئات الهشة من الاندماج الفعّال في الحياة الإنتاجية. وفي المجتمعات التي تعاني من البطالة أو ضعف الفرص، يُعد التعليم الجيد حجر الأساس لإعادة تشكيل الوعي، وإعادة توزيع الفرص، وبناء جيل قادر على اختراق دائرة الفقر وإعادة رسم ملامح مستقبله.
كما أن التعليم المتطور لم يعد مجرد تلقين للمعلومات، بل بات منظومة تُنتج المهارات وتُحفّز الابتكار. فالمناهج الحديثة تُركز على التفكير النقدي، والعمل الجماعي، والتعلم عبر المشروعات، والقدرة على حل المشكلات. وهذه المهارات هي التي تحتاجها أسواق العمل الجديدة، لا سيما مع صعود الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي. ولذا، فإن إعادة تأهيل المعلمين وتطوير أساليب التدريس يجب أن تكون على رأس أولويات الإصلاح؛ فالمعلم هو العمود الفقري للعملية التعليمية، ولا يمكن لأي خطة تطوير أن تنجح دون استثمار حقيقي في هذا العنصر البشري.
ولا بد من الإشارة إلى أن التعليم هو أيضًا أداة لبناء الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء. فحين تتضمن المناهج قيم المواطنة، واحترام التنوع، وروح المسؤولية، يصبح التعليم الحصن الأول في مواجهة التطرف والانقسام. كما أنه يُسهم في ترسيخ الثقافة الوطنية وتعزيز قدرتها على التفاعل مع الثقافات الأخرى دون الذوبان فيها. ومن خلال التعليم، نُحصّن العقول ونفتح أمام الأجيال آفاقًا واسعة لفهم العالم والتفاعل معه من موقع الندّية والإبداع.
أما على الصعيد التنموي المباشر، فإن كل دراسة تؤكّد أن الدول التي تستثمر في التعليم تُحقّق معدلات أعلى من النمو الاقتصادي. فالعلاقة بين جودة التعليم والإنتاجية علاقة وثيقة؛ فكلما ارتفع مستوى التعليم ارتفعت إنتاجية العامل، وتوسعت قاعدة الابتكار، وتحسّنت قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل جديدة. ولهذا، فإن تمويل التعليم ليس عبئًا على الموازنة، بل رافعة اقتصادية تضمن عائدًا طويل الأمد يفوق ما يُصرف عليه أضعافًا.
وفي عصر التحول الرقمي، لا بد من دمج التكنولوجيا في التعليم بشكل مدروس يضمن جودته ويُسهم في توسيع فرص الوصول إليه. فالتعليم الرقمي، والتعلم عن بُعد، والمنصات التفاعلية، كلها أدوات أصبحت قادرة على نقل المعرفة إلى أقصى الأماكن، وتمكين المعلم والمتعلم من تجاوز حدود المكان والزمان. ومع ذلك، يجب أن يرافق هذا التحول استثمار في البنية التحتية الرقمية وتدريب المعلمين لضمان فعالية العملية التعليمية وعدم ترك فجوة جديدة بين من يملك التكنولوجيا ومن لا يملكها.
ختامًا، يبقى التعليم هو الرهان الأكثر أمانًا لأي دولة تطمح إلى مستقبل أفضل. فهو القاطرة التي لا تُهزم، والركيزة التي تُبنى عليها كل خطط التنمية، والنافذة التي يطل منها المجتمع على عالم سريع التغير. وإذا أردنا حقًا أن نصنع مستقبلًا مشرقًا لأبنائنا، فعلينا أن نُعلن التعليم مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا يخضع للتجاذبات ولا يتوقف عند تغير الحكومات، بل يستمر بوصفه حقًا للجميع وواجبًا على الدولة والمجتمع.
فبالعلم تُبنى الأمم، وبالتعليم تزدهر، وبالاستثمار في الإنسان نضمن أن تكون قاطرة التنمية دائمًا في المقدمة.
بقلم الدكتورة عبير محمود خلف