السياحة الزرقاء في المملكة الأردنية الهاشمية: رؤية مستدامة تشرق من شواطئ العقبة ووديان المملكة

3٬283

المرفأ- في عالم يتجه بوتيرة متسارعة نحو تبني مبادئ الاستدامة والحفاظ على الموارد الطبيعية، تبرز السياحة الزرقاء كاستراتيجية سياحية متكاملة واعدة. وهي عبارة عن مفهوم يتجاوز مجرد الاستمتاع بالشواطئ والأنشطة المائية التقليدية، ليرتقي إلى مستوى نموذج تنموي يراعي التوازن البيئي ويعزز الاقتصاد المحوري، ويضع المجتمعات في صلب عملياته. وعلى الرغم من ان هذا المصطلح العالمي لا يزال حديث الظهور نسبياً في الخطاب السياحي المحلي، إلا أن المملكة الأردنية الهاشمية، بقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، وولي عهده الامين سمو الامير الحسين بن عبدالله حفظهم الله ورعاهم تبذل جهوداً حثيثة ومبادرات ملموسة لترجمة هذه الاستراتيجية إلى واقع عملي على أرض الواقع، مستندة إلى رؤية ملكية طموحة خيرة، وإرث طبيعي فريد.
تتمحور الرؤية الأردنية للسياحة الزرقاء حول مفهوم أوسع وهو “الاقتصاد الأزرق”، الذي يُعرف بأنه الاستخدام المستدام للموارد المائية لتحقيق النمو الاقتصادي، وتحسين سبل العيش، وخلق فرص العمل، مع الحفاظ على صحة النظم البيئية المائية. وقد جاءت المبادرة الملكية السامية التي أطلقها جلالة الملك خلال المؤتمر الثالث للأمم المتحدة للمحيطات لتضع إطاراً واضحاً لهذا التوجه الاستراتيجي. وتأتي مدينة العقبة، الواجهة البحرية الوحيدة للأردن، في صلب هذه الرؤية كحاضنة للمشاريع الرائدة ونموذج يُحتذى به.
وعلى أرض الواقع، تترجم هذه الرؤية من خلال شراكات دولية طموحة. فقد أعلن جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين المعظم حفظه الله ورعاه عن شراكة نوعية مع شركة “Voyacy Regen” المتخصصة بالتكنولوجيا الزرقاء، لبناء مركز جديد لتسريع تكنولوجيا المحيطات والابتكار في العقبة. يقع هذا المركز ضمن “متنزه العقبة البحري” الواقع داخل محمية العقبة البحرية الطبيعية، ويركز على تجديد الشعاب المرجانية والبنية التحتية البحرية الساحلية على نطاق غير مسبوق. ويعد هذا المشروع خطوة عملية جوهرية، حيث أن الشعاب المرجانية التي تمتص طاقة الأمواج وتحمي السواحل، تتعرض لتهديد حقيقي، وتشير التقديرات إلى اختفاء نصفها في العالم منذ خمسينيات القرن الماضي. وتستخدم هذه الشراكة تقنيات متطورة مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد والذكاء الاصطناعي لإكثار المرجان الذي يتحمل الحرارة، مما يخلق بنية تحتية بحرية ذكية تحمي البيئة وتعزز التنوع الحيوي في آن معاً.
ولضمان استدامة هذه الجهود وتحويلها إلى سياسة وطنية، بادرت مؤسسات وطنية راسخة مثل نقابة المهندسين الأردنيين إلى وضع أطر استراتيجية. فقد أطلقت النقابة ورقة سياسات وطنية بعنوان ” الاقتصاد الأزرق: العقبة “، وتهدف إلى تقديم خارطة طريق واضحة لتحويل العقبة إلى مركز إقليمي للتقنيات والمشاريع البحرية المستدامة. وتركز الورقة على قطاعات سياحية وابتكارية مثل السياحة البيئية المسؤولة، والطاقة المتجددة البحرية، وتحلية المياه، والبحث والتطوير. كما اقترحت آليات تمويل مبتكرة وإنشاء مركز رواد الاقتصاد الأزرق في العقبة، مما يؤكد الطبيعة الشمولية والمدروسة لهذا النهج التنموي الجديد.
لكن قصة السياحة الزرقاء في الأردن لا تكتمل عند شواطئ العقبة فحسب، بل تمتد جذورها لتشمل كنوزاً طبيعية أخرى تعكس التنوع الجغرافي المذهل للمملكة. فهنا، يلتقي مفهوم الحفاظ على الموارد المائية مع النظم البيئية البرية في تناغم مدهش. فعلى سبيل المثال محمية الأزرق المائية ليست مجرد واحة في الصحراء، بل هي محطة حيوية عالمية للطيور المهاجرة ومشروع رائد في السياحة البيئية ساهم في إنشاء نزل بيئي ومشاريع حرفية يدوية لدعم المجتمع المحلي. كما أن محميات مثل ضانا للمحيط الحيوي أكبر محمية طبيعية في الأردن، ووادي الموجب ليست فقط وجهات للمغامرة والجمال، بل هي نماذج حية لربط حماية التنوع الحيوي بخلق فرص اقتصادية للمجتمعات المحلية من خلال الإرشاد السياحي والمشاريع الصغيرة.
ويصل هذا الربط بين الاستدامة والتراث ذروته في المشاريع المجتمعية التي تضع الإنسان في القلب. ففي منطقة البحر الميت، تتحول دار الشونة بالشراكة مع الجمعية الأردنية للبيئة النوعية إلى تجربة سياحية مجتمعية فريدة، حيث يمكن للزوار ممارسة الألعاب الشعبية والتعرف على أنماط الزراعة المستدامة وتذوق الأطباق التقليدية المحضرة من منتجات محلية، مما يعزز السياحة المحلية ويوفر فرص دخل مستدامة لأهالي المنطقة. هذا النموذج يتكرر في مشاريع مؤسسة نهر الأردن التي تمكّن آلاف السيدات الحرفيات من خلال إحياء الحرف اليدوية مثل التطريز والنسيج البدوي، وتحويل مواد طبيعية مثل أوراق الموز إلى منتجات صديقة للبيئة، لتسويقها محلياً وعالمياً.
يمضي الأردن بثبات من خلال رؤية ملكية يقودها جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين حفظه الله ورعاه وسمو ولي عهده الامين الامير الحسين بن عبدالله حفظه الله ورعاه بترجمة مفهوم السياحة الزرقاء في الاردن من إطار نظري إلى واقع تنموي شامل، والجمع بين الريادة التقنية في حماية البيئة البحرية في العقبة، والاستثمار في السياحة البيئية المجتمعية في المحميات الطبيعية، وإحياء التراث الحرفي مما يعمل على خلق نموذجاً اردنيا متميزا. هذا النموذج لا يقدم للزائر تجربة سياحية غنية فحسب، بل يضمن أن تكون هذه التجربة محركاً للحفظ البيئي والتنمية الاقتصادية المحلية العادلة. إن السياحة الزرقاء في الأردن برؤيتها العظيمة ليست مجرد توجه سياحي، بل هي ركيزة من الركائز الاساسية لبناء مستقبل مشرق وأكثر استدامة مما يحافظ على الإرث الطبيعي والثقافي، ويوفر الفرص العديدة في القطاع السياحي بذات الوقت المتميزة بالمرونة الكبيرة للأجيال القادمة ان شاء الله.

ا.محمد خلدون الطبيشات
رئيس قسم ادارة السياحة والضيافة
الكلية التقنية/ جامعة جدارا

 

قد يعجبك ايضا