الجرائم السيبرانية بين إشكاليات الملاحقة والعقاب

3٬292

 

المرفأ- بقلم الدكتور. احمد صفوت السنباطي

في الظلام الرقمي للإنترنت العميق، حيث لا تعترف البيانات بالحدود ولا تلتزم الجريمة بقيود الجغرافيا، تنشأ واحدة من أعظم التحديات الأمنية والقانونية في العصر الحديث إنها الجرائم السيبرانية العابرة للحدود، تلك الأفعال الإجرامية التي تُرتكب من خلال شبكة المعلومات الدولية، حيث يجلس الجاني في قارة، والضحية في قارة أخرى، والخوادم التي استُخدمت في ارتكاب الجريمة موزعة على عشرات الدول حول العالم هذا المشهد المعقد يحول كل جريمة سيبرانية إلى لغز دولي متعدد الأوجه، يجعل من عملية الملاحقة والعقاب كمن يحاول الإمساك بالسراب فالقراصنة والمجرمون السيبرانيون يعرفون جيداً كيف يستغلون الفجوات القانونية والتباين في التشريعات بين الدول، وكيف يختفون خلف طبقات من التشفير والخوادم الوهمية والعناوين المُقنَّعة إنهم يعملون في فضاء لا تعترف فيه الجريمة بالسيادة الوطنية، بينما تظل أجهزة إنفاذ القانون محصورة داخل حدودها، عاجزة عن مطاردة أشباح رقمية تعبر الحدود بسرعة الضوء.

الإشكالية تبدأ من اللحظة الأولى للإبلاغ عن الجريمة، فكيف تتعامل شرطة محلية مع جريمة بدأ تنفيذها من خلال خادم في روسيا، مر عبر بلجيكا وهولندا، وضرب نظاماً مصرفياً في الإمارات، واستخدم حسابات وهمية مسجلة في جزر فيرجن؟ من يملك الاختصاص الأصيل للتحقيق؟ وأي قانون يطبق؟ غالباً ما تبدأ رحلة الضحية في دوامة من الإجراءات البيروقراطية، حيث تُحال القضية من جهة لأخرى، وتضيع في متاهة الاختصاصات المتضاربة فبعض الدول لديها قوانين سيبرانية متطورة، وبعضها لا يعترف ببعض هذه الأفعال كجرائم، وبعضها الثالث يرفض التعاون لأسباب سياسية أو لعدم وجود اتفاقيات تسليم مجرمين هذا التباين التشريعي يخلق “ملاذات آمنة” رقمية، حيث ينتقل المجرمون السيبرانيون إلى دول لا تجرم أفعالهم أو لا تتعاون قضائياً، ويواصلون نشاطهم الإجرامي بمأمن نسبي.

التحدي الأكبر يكمن في جمع الأدلة الرقمية العابرة للحدود، فهذه الأدلة سريعة الزوال، ويمكن محوها من على بعد آلاف الكيلومترات بنقرة زر كما أن عملية الحصول عليها تتطلب تعاوناً قضائياً دولياً عبر “طلبات المساعدة القانونية المتبادلة”، وهي إجراءات بطيئة وشكلية قد تستغرق شهوراً أو سنوات، بينما يحتاج المحققون إلى الأدلة في دقائق أو ساعات قبل أن تختفي والأكثر تعقيداً أن بعض الدول ترفض مشاركة الأدلة بحجة حماية خصوصية مواطنيها أو بحماية أسرارها الأمنية، مما يحول دون بناء قضية متكاملة حتى عندما يتم جمع الأدلة، تبرز مشكلة قبولها في المحكمة، فكل دولة لديها معايير مختلفة لقبول الدليل الرقمي، وما يعتبر دليلاً مقبولاً في أمريكا قد يُرفض في الصين أو روسيا.

عقاب المجرمين السيبرانيين يمثل معضلة أخرى، فكيف تعاقب شخصاً يعيش في دولة لا تجرم فعله؟ وكيف تجبر دولة على تسليم مواطنها لدولة أخرى لمحاكمته؟ حتى عندما تتم الإدانة، تظهر إشكاليات تنفيذ العقوبة، فالسجن الإلكتروني أو المراقبة الرقمية قد تكون غير مجدية مع مخترق محترف، والغرامات المالية قد لا تعني شيئاً لمجرم يجني الملايين من أنشطته غير المشروعة بل إن بعض المجرمين السيبرانيين يعملون تحت حماية دولهم، كجزء من وحدات استخباراتية أو عسكرية، مما يجعل ملاحقتهم دولياً مستحيلة من الناحية السياسية.

في مواجهة هذا التحدي الهائل، تحاول المنظمات الدولية مثل الإنتربول واليورو بول تنسيق الجهود، وتعمل بعض الدول على إبرام اتفاقيات ثنائية وإقليمية لمكافحة الجريمة السيبرانية، مثل اتفاقية بودابست، لكنها تظل جهوداً غير كافية في مواجهة ظاهرة تنمو بسرعة هائلة الجريمة السيبرانية العابرة للحدود تكشف عن فجوة خطيرة بين سرعة التطور التكنولوجي وبطء التطور القانوني والمؤسسي الدولي إنها تهدد ليس فقط الأفراد والشركات، بل وأمن الدول واستقرار النظام المالي العالمي مواجهتها تتطلب ثورة في التعاون الدولي، وتبني قوانين نموذجية موحدة، وإنشاء قنوات اتصال سريعة بين أجهزة إنفاذ القانون في مختلف الدول، لأن المجرمين لا ينتظرون، والفضاء الإلكتروني لا يعترف بالحدود المستقبل يحمل تحديات أكبر مع تطور الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، مما يجعل من تطوير آليات دولية فعالة للملاحقة والعقاب مسألة أمن قومي عالمي، وليس مجرد قضية قانونية تقنية

قد يعجبك ايضا