رسم السيناريوهات المستقبلية…بقلم د. علي الددا

732

 

رسم السيناريوهات المستقبلية
علي الددا
‐——————
لمرفأ…لطالما انشغل الانسان منذ القدم، بكل ما يتعلق بالمستقبل، بدءاً من محاولاته لفهم كل ما يدور حوله، مروراً بسعيه الى البحث عما يساعده على الحفاظ على حياته من المخاطر التي لا يعرف في أي وقت ستحيط به، وسعيه المتكرر الى طرح الأسئلة التأملية الفلسفية، التي يبحث من خلالها عن تفسير لكل ظاهرة حجبتها أستار الغموض، ووصولاً الى استخدامه الطرق العلمية مثل: الاستكشاف والإحصاء، في تقديم تأصيل معرفي، ورؤية واضحة لما يدور حوله، تتمثل في تعميق إدراكه للتحديات والفرص المتاحة، والتي ستعينه على استشراف آفاق المستقبل.
والاستشراف هنا، هو ما سيؤدي بنا الى تحديد مدى القدرة على رسم سيناريوهات معينة، تتعلق بقضية أو حدث ما، تساعد لاحقًا في ألا يُفرض علينا المستقبل كواقع، تتمثل استجاباتنا له في أحسن الأحوال، بردود فعل آنية ولحظية، ليس أكثر. ولكي نتمكن من استشراف المستقبل، ظهرت الدراسات المستقبلية، وتزايدت أهميتها، وأخذت تشق مسارها في بنية مختلف العلوم الطبيعية منها والاجتماعية، بل أن الدراسات المستقبلية تعد من بين أحدث التخصصات التي تمنحها الجامعات المرموقة، كدرجات علمية ضمن برامج الدراسات العليا فيها، باعتبارها جهداً علميًا منظمًا، يهدف الى استشراف المستقبل بعيد المدى، بما يتضمنه من تصورات وحلول مبتكرة وأهداف ممكنة التحقق.
لقد استخدمت الدراسات المستقبلية، التي تعتمد أساساً على التفكير العلمي، مقومات وأساليب معتمدة في التحليل مثل: تحليل المضمون والتناظر والإسقاط، بالإضافة الى تداخل عملية توظيف هذه الدراسات مع مختلف العلوم وفي شتى المجالات مثل: التخطيط الإداري والاقتصادي والنمو الديمغرافي والصراعات والحروب والتكتلات الاقتصادية واتجاهات العولمة، ومصادر الطاقة والتلوث البيئي…الخ.
وبهدف توفير القدرة اللازمة للاستعداد لمواجهة التحديات المستقبلية، ازدادت الحاجة الى أساليب مختلفة في التخطيط، من بينها استشراف المستقبل، ذلك أن السعي الى ضبط الخطط الاستراتيجية، في ظل فهم تقليدي للبيئة، يعتمد أساساً على التفكير بأن الظروف المحيطة ستتكرر عاماً بعد عام، وفي مختلف المجالات، سيقود في النتيجة الى اتخاذ مسار أوحد للوصول الى الهدف. في حين أن استشراف المستقبل، يتجاوز ذلك الى النظر بعمق الى البيئة المحيطة، وما يمكن أن يطالها من تغيرات، وما تحمله من ظروف تعثر أو فرص نجاحات، وما يمكن تصوره من الاحتمالات المستقبلية بناءً على أحداث مشابهة أو توقعات، مما يولد القدرة الفاعلة على مواكبة التطورات، فقد يتطلب أحد السيناريوهات مثلاً، والذي تم رسمه مسبقاً، استعدادا تقنياً، أو تدريبًا استباقياً…الخ.
نصل من خلال ما سبق الى أن الاستشراف المستقبلي، المبني على التفكير العلمي، هو ما سيتم على أساسه صياغة الرؤى المستقبلية، وما ينتج عنها من السعي الى رسم ( أكثر من سيناريو واحد ) ممكن الحدوث أو متوقع أو مرغوب به. ويقصد بالسيناريو هنا، وضع أو رسم مسار متسلسل منطقياً، وله منهجه العلمي الذي يستند إليه.
لاحظ هنا كم الاحتراف في تفسير ظاهرة ما، والربط بين أسبابها، وبين ظرفها الزمني وفرضياتها ونتائجها المتوقعة، ولاحظ أيضًا كم الإبداع الذي يمكن توظيفه هنا في فهم المتغيرات وتحديد العلاقة فيما بينها، وإعطاء الوزن المتوقع لكل منها، ولاحظ كذلك كم الإبتكار في حساب ما يمليه كل خيار من منافع أو مخاطر محتملة أو ربما لا بد من حدوثها، وحساب مسارات التوقع المبنية على التنبؤ. والتنبؤ هنا بمعناه العلمي، والمبني أساساً على التسلسل المنطقي، مع عدم إغفال أهمية الحدس لدى الباحث الذي يقوم على رسم السيناريو، وكذلك طرائق العصف الذهني التي تفتح الباب واسعا،ً باتجاه التبصر والتوقع، أو النجاح في تصور ما يمكن تحقيقه – ولهذا قلنا سابقاً عدة سيناريوهات- من خلال طرحها لبدائل عدة، أمام صانع القرار، يتضمنها كل سيناريو تم رسمه، يمكن لصانع القرار التصرف على أساسها، في حال غدا المستقبل واقعاً، وهو ما سيعطيه الأفضلية والسبق على الغير، في القدرة على تحقيق التكيف السليم، كتجاوز معيقات، أو تجنب أخطار معينة (سيناريو استطلاعي) أو تحقيق هدف مرغوب يحقق مجموعة من المزايا( سيناريو استهدافي).
بقي القول، أن دراسات المستقبل، تحمل بين ثناياها تكريسًا لعدم الاكتفاء باجترار مشكلات الماضي والغرق في متطلبات الحاضر، وإنما أخذ منحى جديد، باتجاه رسم السيناريوهات المستقبلية، بكل ما يتضمنه استشراف المستقبل من فرص أو مخاطر، يمكن التهيؤ لها استباقيًا.

قد يعجبك ايضا